قال الميداني في كتابه (مجمع الأمثا :((أبْصَرُ مِنْ زَرْقَاءِ اليَمَامَةِ)، واليَمَامة: اسمُها، وبها سُمي البلد. وذكر الجاحظ أنها كانت من بنات لُقْمَان بن عاد، وأنَّ اسمها عنز. وقال محمد بن حبيبَ: هي امرأة من جَدِيس، كانت تُبْصِر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلما قَتَلَتْ جَدِيس طَسْمًا، خرج رجل من طَسْم إلى حَسَّان بن تُبَّع، فاستجاشه ورَغَّبه في الغنائم، فجهَّز إليهم جيشًا، فلما صاروا من جَوّ على مسيرة ثلاث ليالٍ صعدت الزرقاء فنظرت إلى الجيش، وقد أُمِرُوا أن يحمل كل رجل منهم شجرة يستتر بها ليلبِّسُوا عليها، فقالت: يا قوم قد أتتكم الشَّجَر، أو أتتكم حِمْير، فلم يصدقوها، فقالت:
أقْسِمُ بالله لقد دَبَّ الشَّجَرْ ...أو حِمْيَر قد أخَذَتْ شيئًا يجر فلم يصدقوها، فقالت: أحلف بالله لقد أرى رَجلاً، يَنْهَسُ كتْفًا، أو يَخْصِفُ النعل. فلم يصدقوها، ولم يستعدُّوا حتى صَبَّحهم حَسَّان فاجتاحهم، فأخذ الزرقاء فشقّ عينيها فإذا فيهما عُرُوق سود من الإثمِدِ، وكانت أولَ من اكتحل بالإثمد من العرب».
لقد تحولت أسطورة (زرقاء اليمامة) التي هي أحد أساطير العرب البائدة في وسط شبه الجزيرة العربيّة إلى أيقونة رمزية للبصيرة العميقة التي تحذر من المآلات الخطيرة والنهايات المأساوية، وكانت هذه الأسطورة التاريخيّة هي الملهمة لعدد من أهم الأعمال الأدبية العربيّة الحديثة على سبيل التناص التاريخي الإسقاطي مع أسطورة عربية عاربة.
أنتجت هيئة المسرح والفنون الأدائية بوزارة الثقافة السعودية الأوبرا الاستثنائية (زرقاء اليمامة)، وهي أول أوبرا سعودية وأكبر إنتاج أوبرالي باللغة العربيّة، وقد استوحى الشاعر السعودي صالح زمانان مؤلف العمل فصول هذه الأوبرا التاريخية من متخيل زرقاء اليمامة في الذاكرة الثقافيّة العربيّة، وتولى الأسترالي لي برادشو التأليف الموسيقي في حين أخرج هذا العمل الإبداعي المهم المخرج السويسري دانييل فينزي باسكا.
إنَّ الموروث السَّرديّ العربيّ القديم هو موروث على درجة عالية من الثراء في اشتغاله على شبكات ترميزية ضخمة من الدلالات التاريخيّة والحضارية والإنسانيّة التي يصلح تحويلها إلى صناعات إبداعية ومعرفية داخلة في منظومة (الاقتصاد البرتقالي) The Orange Economy. إنّ الاقتصاد البرتقالي يغطي عددًا من الأنشطة الاقتصادية القائمة على المعرفة التي تشكل العمود الفقري للصناعات الثقافية والإبداعية، والتي لها أثر في المنظومة الاقتصادية بشكل عام، وتضم ستة قطاعات رئيسية، تشمل التراث الطبيعي والثقافي، والكتب والصحافة، وفنون الأداء والاحتفالات، والإعلام المسموع والمرئي والتفاعلي، والفنون. ونبارك لهيئة المسرح والفنون الأدائية بوزارة الثقافة السعودية النجاح الكبير الذي حقّقه هذا العمل الأوبرالي الضخم والمهم والتأسيسي عربيًا في مجال استثمار الخزين الثقافي الأسطوري العربي الهائل الذي يمتد إلى مئات القرون من التاريخ العربي قبل الإسلام، والذي هو شاهد على عمق الذاكرة الثقافية الحضارية وفي عمق الجزيرة العربية وتأثيراتها الملهمة في الذاكرة العربيّة التأسيسيّة على امتداد القرون.
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك