قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير في شأن القضية الفلسطينية أثار من جديد، بين ما أثار، مسألة بالغة الأهمية. إذ جاء القرار في لحظة كثر فيها حديث خبراء العلاقات الدولية وخاصة المهتم منهم بقضايا الشرق الأوسط عن المكانة المتراجعة للولايات المتحدة الأمريكية. لاحظنا أن في جانب من هذا الحديث اختار المتحدثون تبرير التراجع في المكانة، أو تفسيره، ضمن حالة أكثر شمولًا وعمقًا في التفاعلات الجارية في النظام الدولي، وهو ما صار يعرف بمزاج الانعزال لدى عدد متزايد من الدول الأعضاء في النظام أو/ وبموجة الدول الواقعة تحت عقوبة العزل والإبعاد عن فعاليات النظام بسبب الخروج أو الزعم بالخروج على القواعد المعمول بها.
حال الدول في النظام الدولي كحال الأفراد في النظام السياسي لكل دولة على حدة. لاحظنا حتى تأكدنا من حقيقة أن نسبة متزايدة من الأفراد صاروا يتعرضون لحال الانعزال أو حال العزل وما يستتبعهما من شعور بالوحدة، وفى أحوال قصوى، بالرغبة أو الميل للانتحار. أهتم بمتابعة الظاهرة، وهي ليست جديدة أو طارئة على كل حال، باحثون ومفكرون في أنحاء كثيرة وتخصصات عديدة، من بينها علم النفس اهتموا بها. خرج هؤلاء علينا بأفكار مهمة يمكنني تلخيص بعضها فيما يلي:
أولًا: تشهد معظم الدول في العقود الأخيرة زيادات مطردة في عدد سكانها. ازدحمت الطرق والمدارس ومواقع العمل ووسائل المواصلات. هذه الزيادات تسببت في ضغوط شتى على حرية الحركة والتنقل وصعوبات في خدمات التعليم والصحة وتضييق في مساحات العمل والرفاهة، تسببت بالتالي في ضيق بل في أزمات نفسية حادة. كتب أحد الفلاسفة في وصف هذه الحالة قائلًا: إنها أشبه ما تكون بحال «الانسحاب العظيم» للفرد العادي من المجتمع الذي يعيش فيه.
ثانيًا: شملت الزيادة قطاعًا مهمًا من السكان، وهم كبار السن. هؤلاء بطبيعتهم انعزاليون بالمزاج أو بالفرض المجتمعي. هؤلاء يضجون من الضجة والصخب المحيط بهم من كل مكان فيختارون، أو هم يجبرون على اختيار الانعزال. هنا يتولد عند نسبة غير قليلة شعور بالوحدة ناتج عن حياة العزلة أو الانعزال، أي عن انفرادية التفاعل إن صح التعبير. الانفرادية تستبعد بحكم التعريف المشاركة وتعتمد درجة أعلى من الاستقلالية أو وهو الأهم وربما الأخطر درجة عالية من «النفسنة» ومن حب الذات أو تقديسها وربما درجة لا بأس بها من شعور بالعظمة المبالغ فيها أو باليأس الذي عادة ما يصيب المحبوس في سجن انفرادي.
ثالثًا: تفاقمت مشكلة الانفرادية وعلامات وتصرفات ناتجة عن الشعور بالوحدة بين سكان دول تعرضت مؤخرًا لأوبئة، مثل الكورونا أو لكوارث طبيعية. لاحظنا هذه الحالة في مصر، حيث وقع ميل واسع من جانب المواطنين لتجنب المشاركة في المناسبات الاجتماعية بل وفى حالات كثيرة امتنع كثيرون عن الذهاب الى أعمالهم وزادت نسبة من فضلوا، إن سمحت ظروف العمل، أداء مهامهم من منازلهم. لوحظ في الوقت نفسه تغيير في السلوكيات والعلاقات نتيجة الشعور المتزايد بالوحدة وبغيرها من سلبيات الانفرادية في السلوك والتفاعلات مع الغير وخاصة مع السلطة وممثليها.
رابعًا: لا جدال أنه في غياب التعددية السياسية والأحزاب والنقابات وأجهزة التواصل الإعلامي وحريات التعبير والتنقل يزداد ميل الإنسان الى التقوقع والانفراد في التصرف، وبالتالي يتفاقم شعوره بالوحدة ومعه الرغبة في الاختفاء أو عدم المشاركة وفى النهاية يغلب اليأس والإحباط فالانزواء. هذا في حد ذاته تهديد مستتر للاستقرار، فالإنسان المشارك فضلا عن أنه أداة بقاء ورقي الدولة، هو أيضا الهدف الذي من أجله قامت وتبقى.
صدق الأولون من علماء السياسة عندما رفضوا الفصل المطلق بين الداخل والخارج في دراسة علوم السياسة. توقفت طويلًا أمام العناصر التي تتسبب في صنع الإنسان، ولا أقول المواطن، الذي يختار الانعزال أو يرضى بالعزلة المفروضة عليه. رحت أقارنها بالعناصر التي تتسبب في صنع الدولة التي تختار الانعزال أو تلك التي ترضى بعزلة تفرض عليها. رحت أراجع وأتذكر وأقارن.
سويسرا مثلًا اختارت الانعزال وأسمته حيادًا. في قارة تشهد من عشرات العقود حروبًا لا تتوقف، أهلكت في طريقها امبراطوريات ودمرت مئات المدن، وأطلقت العنان لهجرات وهجرات مضادة.
أحدهم سألني إن كنت أعتبر الولايات المتحدة في وضعها الراهن ومع استمرار حرب إسرائيل وأمريكا ضد الشعب الفلسطيني وخاصة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل خاصة ضد شعب غزة، أعتبرها دولة في حال انعزال. واستطرد في السؤال، أو أضاف سؤالًا إلى سؤال، قال فإن اعتبرتها في حال عزل أو انعزال فهل لاحظت على سلوكها تغييرًا، وبدقة أشد ألست شاهدًا مثلي على دولة عظمى تتصرف تصرفات دولة تشعر بالوحدة، وهي عضو في نظام دولي غاص بالأمم بل هي وبالاسم لا تزال تحمل صفة القائد أو المهيمن في هذه الجماعة؟ ألم تنتبه إليها وبعض تصرفاتها تعبر عن حالة إحباط؟ ألا تراها كما أراها دولة عظمى محبطة؟
يردد خبراء السياسة الدولية ما يعتقدون أنه صار من قواعد الفهم للسلوك السياسي للدول، كما في السلوك السياسي للأفراد داخل كل دولة، أن أمورا ثلاثة تتسبب واحدة منها على الأقل في إثارة الرغبة في الانعزال عن الجماعة، وهي الحالة التي يصاحبها الشعور بالوحدة وتصرفات تعكس حالة مزيج من المشاعر والطموحات المحبطة. أما هذه القواعد فمنها: (1) خروج القوة الأعظم المهيمنة على قواعد النظام الدولي، وأكثرها من صنع هذه الدولة القائد نفسها، وتمرد دول متزايدة العدد. (2) المبالغة في ممارسة الهيمنة تحت عنوان قيادة النظام الدولي. (3) الشكوك المتزايدة لدى عدد كبير من الدول في نجاعة النظام الدولي القائم وخاصة قدرته على تحقيق الاستقرار والأمن الدوليين. لا يفوتني في هذا الصدد أن ألفت النظر إلى مدى انطباق قواعد الفهم هذه على سلوك الدول الأعضاء في النظام الإقليمي كما الدولي.
كثيرة هي النماذج في التاريخ المعاصر التي تستحق العودة لدراسة نهج سياساتها الخارجية، والداخلية، خلال انعزالها أو عزلها. كوبا كانت ولا تزال نموذجًا لحال دولة صغيرة فرض عليها العزل. الصين الشعبية مارست هذا الدور عقودا قبل أن تقرر الولايات المتحدة حاجتها الى وجودها قطبًا مشاركًا. كوريا الشمالية نموذج فريد لرد فعل دولة صغيرة تعرضت للعزل من جانب القوة العظمى فتحولت إلى قوة حشد شامل غير مسبوق وتهديد كامن لأمن النظام الدولي. إسرائيل نموذج آخر فريد. عاشت فترة غير قصيرة تحت قرار إقليمي بالعزل تجاوزته بشن حرب شبه دائمة على الإقليم الذي فرض عليها العزل وبالاندماج العضوي في النظام السياسي للدولة العظمى. تايوان تقف برد فعلها أيضا فريدة. فضلت أن تستمر أداة في صراع القمة الدولية واثقة من أن مصير عزلتها مقترن بظروف تفرض عليها عودتها جزءًا من الوطن الأم. سمعت صديقًا في الصين يصف حالة تايوان، فورموزا سابقًا، بحالة دولة تعيش على فائض الزمن. عشت دهرًا أحاول فهم ما قصد.
لكل من هذه الدول - النماذج سيرة حياة. كل منها اختط لنفسه سياسة خارجية تناسب ظروف العزل أو الانعزال وتتلاءم مع هدف التخلص من هذا الوضع أو الاستفادة منه. كل منها عانى من ضغط إحباط أو خيبة أمل وانقسامات داخلية. كل منها عاش مراحل ارتباك وتردد وقلة ثقة في الآخر عدوًا كان أم صديقًا.
أمامنا، وبالتحديد في مقدمة النظام الدولي الذي نعيش في جنباته، دولة عظمى ارتكبت من السياسات والممارسات ما جلب عليها بوادر عزلة داخل نظام دولي هي صانعته وقائده. جلب أيضًا بالتبعية داخل قطاع مهم من نخبتها رغبة متنامية في الانعزال وسلوكيات أفراد وأجيال تستحق منا المتابعة والانتباه.
الأمر جدا خطير وكذلك الوضع والظرف، فالدولة القائد، بقوتها الجبارة وأثناء لحظات ارتباك وسيولة ومعايير مزدوجة وشباب منفعل بالغضب أو عدم الرضا، تشارك في دعم حرب إبادة كبيرة تقرر شنها ضد شعب فلسطيني أعزل، تشارك أيضًا في دعم حروب استعمار صغيرة في دول عربية وإفريقية متزايدة العدد. الدولة صانعة القواعد الأخلاقية للنظام الدولي صارت بشكل من الأشكال متهمة بخرق هذه القواعد. الدولة المكلفة بحفظ الأمن والسلم الدوليين هي الآن متهمة بأنها تنشر الفوضى وتثير الشغب. الدولة الأمل صارت، في اعتقاد شعوب العالم، مصدرًا للألم.
{ كاتب ومحلل سياسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك