العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

تحت ظلال الموت.. كيف تنبت أشجار الأمل؟

بقلم: نبيلة رجب

الأربعاء ٢٩ مايو ٢٠٢٤ - 02:00

في‭ ‬أعقاب‭ ‬الدمار‭ ‬الذي‭ ‬خلفته‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬بزغت‭ ‬شعاعات‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬الأفق،‭ ‬كنجوم‭ ‬تنير‭ ‬ظلام‭ ‬الليل‭ ‬الحالك،‭ ‬مُنذرة‭ ‬بفجر‭ ‬جديد‭ ‬ينسج‭ ‬من‭ ‬خيوط‭ ‬الذهب‭. ‬هذا‭ ‬الفجر‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬قيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والعدالة،‭ ‬ويعلن‭ ‬بداية‭ ‬حقبة‭ ‬جديدة‭ ‬قد‭ ‬ترسخ‭ ‬للأمل‭ ‬والتغيير،‭ ‬لكن‭ ‬الواقع‭ ‬يكشف‭ ‬أحيانا‭ ‬عن‭ ‬وجه‭ ‬آخر‭ ‬للإنسانية؛‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التقدم‭ ‬والتحضر،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الإنسان‭ ‬يخفي‭ ‬بين‭ ‬ضلوعه‭ ‬بذور‭ ‬الوحشية‭ ‬البدائية‭.‬

في‭ ‬قلب‭ ‬هذه‭ ‬المعادلة،‭ ‬تقع‭ ‬غزة،‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تتربع‭ ‬كتاج‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط،‭ ‬تحمل‭ ‬تراثا‭ ‬غنيا‭ ‬وتاريخا‭ ‬عريقا‭ ‬بحضارات‭ ‬متعاقبة،‭ ‬كلوحة‭ ‬فنية‭ ‬تحكي‭ ‬قصص‭ ‬الأمم‭. ‬هي‭ ‬القلب‭ ‬النابض‭ ‬لفلسطين،‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬تحديات‭ ‬جسام،‭ ‬كصخور‭ ‬صلبة‭ ‬تتحدى‭ ‬عواصف‭ ‬الزمان‭ ‬بروح‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الكلل‭ ‬وعزيمة‭ ‬لا‭ ‬تقهر‭. ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الحصار‭ ‬وسنوات‭ ‬اللهب‭ ‬والعدوان‭ ‬الممنهج،‭ ‬تظهر‭ ‬غزة‭ ‬المعنى‭ ‬الحقيقي‭ ‬للبسالة‭ ‬كمحارب‭ ‬قديم‭ ‬يرفض‭ ‬الانكسار،‭ ‬لتصبح‭ ‬رمزا‭ ‬ومدرسة‭ ‬تعلمنا‭ ‬وتوجهنا‭ ‬إلى‭ ‬معاني‭ ‬الثبات‭ ‬والاستمرارية‭ ‬في‭ ‬المطالبة‭ ‬بالحقوق‭.‬

إيمان‭ ‬سكانها‭ ‬بعدالة‭ ‬قضيتهم‭ ‬يمثل‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬فردوسا‭ ‬أبديا‭. ‬هؤلاء‭ ‬هم‭ ‬اصحاب‭ ‬القضية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نضالهم،‭ ‬نكتشف‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للتاريخ‭ ‬أن‭ ‬يستغل‭ ‬ويحرف‭ ‬لتبرير‭ ‬الاستبداد‭. ‬عزيمتهم‭ ‬تنسج‭ ‬من‭ ‬معاناتهم‭ ‬رواية‭ ‬متينة‭ ‬من‭ ‬الصمود‭ ‬والمقاومة،‭ ‬تتجدد‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬جيل‭ ‬كالفينيق‭ ‬الذي‭ ‬يولد‭ ‬من‭ ‬رماده‭. ‬الأطفال‭ ‬والشيوخ،‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء،‭ ‬يقفون‭ ‬جنبا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الأزمات،‭ ‬يحولون‭ ‬ألمهم‭ ‬إلى‭ ‬نور،‭ ‬ومن‭ ‬الدموع‭ ‬يصنعون‭ ‬دوافع‭ ‬لاستمرار‭ ‬الحياة‭. ‬العالم‭ ‬يشهد،‭ ‬وكأن‭ ‬المدينة‭ ‬تصرخ‭ ‬في‭ ‬صمت‭: ‬إن‭ ‬الحق‭ ‬لا‭ ‬يموت‭ ‬بالظلم،‭ ‬والظلم‭ ‬لا‭ ‬يدوم‭ ‬بالحق‭. ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬ترسلها‭ ‬غزة‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬أجمع،‭ ‬مُعلنة‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬هناك‭ ‬قلوب‭ ‬تنبض‭ ‬بالتفاؤل‭ ‬والعزيمة‭ ‬رغم‭ ‬الألم‭ ‬والخراب‭.‬

من‭ ‬أعماق‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬حيث‭ ‬تعلو‭ ‬أصوات‭ ‬قذائف‭ ‬العدو‭ ‬فوق‭ ‬الأزقة‭ ‬والشوارع،‭ ‬يعيش‭ ‬أطفال‭ ‬يتجاوزون‭ ‬ببراءتهم‭ ‬ظلام‭ ‬الحروب‭ ‬وبربرية‭ ‬العصر‭. ‬هؤلاء‭ ‬الأطفال،‭ ‬رغم‭ ‬صغر‭ ‬سنهم،‭ ‬يحملون‭ ‬فوق‭ ‬أكتافهم‭ ‬وزر‭ ‬القضية‭ ‬وأثقالها،‭ ‬متحدين‭ ‬المصاعب‭ ‬بقلوب‭ ‬تفيض‭ ‬بالأمل‭ ‬والثبات‭. ‬يعاني‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ستة‭ ‬أطفال‭ ‬دون‭ ‬سن‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬التغذية‭ ‬الحادة‭ ‬بحسب‭ ‬تقارير‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬فقدوا‭ ‬أرواحهم‭ ‬وتهشمت‭ ‬أجسادهم‭ ‬تحت‭ ‬نيران‭ ‬القذائف‭ ‬أو‭ ‬أثناء‭ ‬محاولتهم‭ ‬جمع‭ ‬المساعدات‭ ‬التي‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭ ‬والتي‭ ‬تم‭ ‬إسقاطها‭ ‬جواً‭. ‬ولا‭ ‬ننسى‭ ‬الآلاف‭ ‬ممن‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬اضطراب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الصدمة‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬المنظمات‭ ‬الإنسانية‭.‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الدمار‭ ‬والرعب‭ ‬الذي‭ ‬يحيط‭ ‬بهم،‭ ‬من‭ ‬جوع‭ ‬ومنازل‭ ‬مهدمة‭ ‬ومدارس‭ ‬مدمرة‭ ‬وصدمات‭ ‬نفسية‭ ‬جراء‭ ‬قذائف‭ ‬لا‭ ‬ترحم‭ ‬تتجلى‭ ‬قدرتهم‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬الصمود،‭ ‬وكيف‭ ‬يتحولون‭ ‬إلى‭ ‬رموز‭ ‬للإرادة‭ ‬والشجاعة‭. ‬ليست‭ ‬الجراح‭ ‬التي‭ ‬تعتريهم‭ ‬مجرد‭ ‬علامات‭ ‬على‭ ‬أجسادهم،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬شهادات‭ ‬حية‭ ‬على‭ ‬ازدواجية‭ ‬المعايير‭ ‬العالمية‭ ‬والكيل‭ ‬بمكيالين،‭ ‬تتردد‭ ‬أصداؤهم‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كجرس‭ ‬إنذار‭ ‬لإيقاظ‭ ‬الضمائر‭ ‬النائمة‭ ‬وتحدي‭ ‬اللامبالاة‭ ‬العالمية‭.‬

أطفال‭ ‬غزة،‭ ‬ببريق‭ ‬أعينهم‭ ‬وقلوبهم‭ ‬النابضة،‭ ‬يعيدون‭ ‬تعريف‭ ‬مفاهيم‭ ‬البطولة‭ ‬والقوة‭ ‬في‭ ‬قواميس‭ ‬كانت‭ ‬تفسر‭ ‬بعكس‭ ‬معناها‭. ‬تبرز‭ ‬قوتهم‭ ‬كنور‭ ‬يتحدى‭ ‬الظلام،‭ ‬ينير‭ ‬دروب‭ ‬اليأس‭ ‬ويمنح‭ ‬الأمل‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يُقدم‭ ‬ويشهد‭ ‬رحلتهم‭. ‬يظهرون‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للأمل‭ ‬أن‭ ‬ينبت‭ ‬في‭ ‬أقسى‭ ‬الظروف،‭ ‬وكيف‭ ‬للروح‭ ‬الصغيرة‭ ‬أن‭ ‬تحمل‭ ‬أعظم‭ ‬الدروس‭.‬

في‭ ‬عالم‭ ‬يقف‭ ‬عاجزًا،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬يبرر‭ ‬آلة‭ ‬القمع،‭ ‬يواصل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأطفال‭ ‬كشهود‭ ‬على‭ ‬التاريخ،‭ ‬يفضحون‭ ‬دعاة‭ ‬الإنسانية‭ ‬المزيفة‭ ‬الذين‭ ‬يتشدقون‭ ‬بالقيم‭ ‬ويتجاهلون‭ ‬الجرائم،‭ ‬ملهمين‭ ‬الأجيال‭ ‬بأن‭ ‬العدل‭ ‬يستحق‭ ‬الكفاح‭ ‬وأن‭ ‬الحقيقة‭ ‬مهما‭ ‬طال‭ ‬الزمن،‭ ‬فستجد‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬النور‭.‬

رغم‭ ‬ما‭ ‬تروجه‭ ‬بعض‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬العالمية،‭ ‬التي‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬نرجسية‭ ‬الأخبار‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬الوقائع،‭ ‬ومساعيها‭ ‬لتشويه‭ ‬الحقائق،‭ ‬تعلو‭ ‬صيحات‭ ‬من‭ ‬شتى‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬أصوات‭ ‬تمثل‭ ‬شعوبًا‭ ‬وأفرادًا‭ ‬يتحركون‭ ‬بإيمان‭ ‬عميق‭ ‬بالقيم‭ ‬الإنسانية‭. ‬هؤلاء‭ ‬لا‭ ‬تقيدهم‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬أو‭ ‬الولاءات‭ ‬السياسية؛‭ ‬بل‭ ‬يسعون‭ ‬لتحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬والحق‭ ‬بقلوب‭ ‬تنبض‭ ‬صدقًا‭. ‬يجتازون‭ ‬بتضامنهم‭ ‬الحدود‭ ‬الجغرافية‭ ‬والثقافية،‭ ‬ليؤكدوا‭ ‬للعالم‭ ‬أن‭ ‬الحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬ليستا‭ ‬مجرد‭ ‬قيم‭ ‬محلية،‭ ‬بل‭ ‬هما‭ ‬ركنا‭ ‬الأمان‭ ‬العالمي‭ ‬الذي‭ ‬يوحد‭ ‬شمل‭ ‬الإنسانية‭ ‬عبر‭ ‬تعاطف‭ ‬عميق‭ ‬ورغبة‭ ‬صادقة‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬عالم‭ ‬يسوده‭ ‬السلام‭ ‬والإنصاف‭.‬

هذه‭ ‬الجماعات،‭ ‬بتكاتفها،‭ ‬تشكل‭ ‬قوة‭ ‬ملهمة‭ ‬تعيد‭ ‬صياغة‭ ‬مسار‭ ‬التاريخ،‭ ‬حيث‭ ‬تسود‭ ‬الرحمة‭ ‬والعدل‭ ‬على‭ ‬سلوكيات‭ ‬الأنانية‭ ‬والتشرذم‭ ‬الأخلاقي‭. ‬وبوقفتهم‭ ‬الثابتة‭ ‬ضد‭ ‬الظلم،‭ ‬يرسلون‭ ‬بأفعالهم‭ ‬رسالة‭ ‬قوية‭ ‬وواضحة‭: ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬يمكن‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أفضل‭. ‬تأثير‭ ‬هذا‭ ‬التضامن‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬الوعي‭ ‬العام‭ ‬ودفع‭ ‬عجلة‭ ‬التغيير‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬والمجتمعات،‭ ‬ملهمين‭ ‬الآخرين‭ ‬للانضمام‭ ‬إلى‭ ‬حركتهم‭ ‬ومضيئين‭ ‬شرارة‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬القلوب‭. ‬إنهم‭ ‬يظهرون‭ ‬بأن‭ ‬الإيمان‭ ‬بالقضايا‭ ‬العادلة‭ ‬يملك‭ ‬قوة‭ ‬تحريك‭ ‬الجبال،‭ ‬معلنين‭ ‬بصوت‭ ‬واحد‭ ‬أن‭ ‬العدالة‭ ‬والسلام‭ ‬ليسا‭ ‬فقط‭ ‬رغبة،‭ ‬بل‭ ‬هما‭ ‬حق‭ ‬أساسي‭ ‬يستحقه‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا