العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

المرأة القائدة .. ذات النطاقين أنموذجا

بقلم: د. زكريا الخنجي

الاثنين ٠٣ يونيو ٢٠٢٤ - 02:00

لا‭ ‬تذكر‭ ‬لنا‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬أسماء‭ ‬بنت‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬الصديق‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭ ‬الملقبة‭ ‬بذات‭ ‬النطاقين‭ ‬قبل‭ ‬يوم‭ ‬الهجرة‭ ‬المباركة‭ ‬لرسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬وصاحبه‭ ‬من‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬إلى‭ ‬المدنية‭ ‬المنورة‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬والكتب‭ ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬سنحاول‭ ‬أن‭ ‬نتجاهلها‭ ‬وخاصة‭ ‬ونحن‭ ‬نتكلم‭ ‬عن‭ ‬قدراتها‭ ‬القيادية‭ ‬التي‭ ‬برزت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬خاضت‭ ‬غمار‭ ‬الحياة‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬الزوجية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬أو‭ ‬المدنية‭ ‬المنورة،‭ ‬أو‭ ‬مواقفها‭ ‬مع‭ ‬الحجاج‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬الثقفي‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المواقف‭.‬

هي‭ ‬أسماء‭ ‬بنت‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬الصديق‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما،‭ ‬صحابية من السابقين‭ ‬الأولين‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬وهي‭ ‬ابنة أبي‭ ‬بكر‭ ‬الصديق‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬وزوجة الزبير‭ ‬بن‭ ‬العوام‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬وأخت أم‭ ‬المؤمنين‭ ‬عائشة‭ ‬بنت‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنها‭ ‬زوجة‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬وكانت‭ ‬أسنَّ‭ ‬من‭ ‬عائشة‭ ‬ببضع‭ ‬عشرة‭ ‬سنة،‭ ‬وهي‭ ‬أم‮ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬الزبير‭ ‬الذي‭ ‬بويع‭ ‬له‭ ‬بالخلافة،‭ ‬وأول‭ ‬مولود‭ ‬للمهاجرين‭ ‬بالمدينة‭.‬

لها‭ ‬ثلاثة‭ ‬إخوة‭ ‬وأختان،‭ ‬ومن‭ ‬أشهرهم‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مساعدها‭ ‬أثناء‭ ‬هجرة‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬وعبد‭ ‬الرحمن‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬بكر،‭ ‬ومحمد‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬وأم‭ ‬المؤمنين‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم‭.‬

هاجرت‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬المنورة‭ ‬وهي‭ ‬حامل‭ ‬بعبد‭ ‬الله،‭ ‬وولدت‭ ‬خمسة‭ ‬أولاد‭ ‬هم،‭ ‬عبد‭ ‬الله،‮ ‬وعروة،‮ ‬والمنذر،‮ ‬وعاصم،‭ ‬والمهاجر،‭ ‬وثلاث‭ ‬بنات‭ ‬هن‭: ‬خديجة‭ ‬الكبرى،‭ ‬أم‭ ‬الحسن،‭ ‬عائشة‭. ‬شهدت معركة‭ ‬اليرموك‭ ‬مع‭ ‬ابنها‭ ‬وزوجها‭. ‬عاشت‭ ‬أسماء‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وَلي‭ ‬ابنها‭ ‬الخلافة‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استشهد،‭ ‬وصارت‭ ‬كفيفة،‭ ‬وماتت‭ ‬وقد‭ ‬بلغت‭ ‬مائة‭ ‬سنة،‭ ‬وهي‭ ‬أخر‭ ‬المهاجرات‭ ‬وفاةً‭. ‬روت‭ ‬عدة أحاديث،‭ ‬ومسندها‭ ‬ثمانية‭ ‬وخمسون‭ ‬حديثًا،‮ ‬واتفق‭ ‬لها‭ ‬البخاري‭ ‬ومسلم‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬حديثًا،‭ ‬وانفرد‮ ‬البخاري‮ ‬بخمسة‭ ‬أحاديث،‮ ‬ومسلم‭ ‬بأربعة‭.‬

الصفات‭ ‬القيادية‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬أسماء‭ ‬ذات‭ ‬النطاقين

ربما‭ ‬وجدنا‭ ‬صعوبة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬صفات‭ ‬ذات‭ ‬النطاقين‭ ‬القيادية،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬حياتها‭ ‬كلها‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬قائدة‭ ‬بالفطرة،‭ ‬فالدراسات‭ ‬والمراجع‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬تأثير‭ ‬على‭ ‬الدعوة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬بزوغها،‭ ‬وحتى‭ ‬توفت‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنها‭ ‬عندما‭ ‬وقفت‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الحجاج‭ ‬بن‭ ‬يوسف‭ ‬الثقفي‭ ‬أمام‭ ‬جثة‭ ‬ابنها‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬الزبير‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬ومن‭ ‬قوة‭ ‬موقفها‭ ‬اهتز‭ ‬الحجاج‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخيف‭ ‬الناس،‭ ‬لنقرأ‭ ‬ونشاهد‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬سيرتها‭ ‬وقدراتها‭.‬

اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬الأزمات؛‭ ‬تقول‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنها‭ ‬وهي‭ ‬ابنه‭ ‬الرابعة‭ ‬عشر‭ ‬عاما،‭ ‬عندما‭ ‬عزم‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬على‭ ‬الهجرة‭ ‬مع‭ ‬الصديق‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬‮«‬صنعت‭ ‬سفرة‭ ‬النبي‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أبي‭ ‬حين‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يهاجر،‭ ‬فلم‭ ‬أجد‭ ‬لسفرته‭ ‬ولا‭ ‬لسقائه‭ ‬ما‭ ‬أربطهما،‭ ‬فقلت‭ ‬لأبي‭: ‬ما‭ ‬أجد‭ ‬إلا‭ ‬نطاقي،‭ ‬قال‭: ‬شقيه‭ ‬اثنين‭ ‬فاربطي‭ ‬بهما‭. ‬قالت‭: ‬فلذلك‭ ‬سميت‭ ‬ذات‭ ‬النطاقين‮»‬‭.‬

وتقول‭ ‬الروايات‭ ‬إن‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬ذلك‭ ‬كله،‭ ‬فسماها‭ ‬أسماء‭ ‬ذات‭ ‬النطاقين،‭ ‬وقال‭ ‬لها‭: ‬‮«‬أبدلك‭ ‬الله‭ ‬بنطاقك‭ ‬هذا‭ ‬نطاقين‭ ‬في‭ ‬الجنة‮»‬‭. ‬

يمكن‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬أنها‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنها‭ ‬لم‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬شق‭ ‬نطاقها،‭ ‬فالجميع‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬سوف‭ ‬يغير‭ ‬التاريخ‭ ‬ولحظة‭ ‬مفصلية‭ ‬سجلها‭ ‬التاريخ‭ ‬بمداد‭ ‬من‭ ‬نور،‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬كانت‭ ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬تأخير‭ ‬في‭ ‬خروج‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬وصاحبه‭ ‬من‭ ‬الدار‭ ‬يعني‭ ‬الفرصة‭ ‬المناسبة‭ ‬لكفار‭ ‬قريش‭ ‬بالقضاء‭ ‬على‭ ‬الدعوة‭ ‬وصاحبها،‭ ‬لذلك‭ ‬تحرك‭ ‬عقلها‭ ‬القيادي‭ ‬الفطري‭ ‬فاتخذت‭ ‬في‭ ‬الموقف‭ ‬المناسب‭ ‬القرار‭ ‬المناسب‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬تردد،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الموقف‭ ‬سريعا‭ ‬وخطيرا،‭ ‬وكان‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬قرار،‭ ‬فكان‭ ‬القرار‭ ‬المناسب‭.‬

المواجهة‭ ‬والذكاء‭ ‬وحسن‭ ‬الرد‭: ‬تشير‭ ‬الروايات‭ ‬أنه‭ ‬بعدما‭ ‬خرج‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬وأبو‭ ‬بكر‭ ‬الصديق‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬حمل‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬معه‭ ‬ماله‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬ولم‭ ‬يترك‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬شيئًا،‭ ‬وكان‭ ‬ماله‭ ‬حوالي‭ ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬أو‭ ‬ستة‭ ‬آلاف‭. ‬

فجاء‭ ‬جد‭ ‬أسماء‮ ‬‭(‬أبو‭ ‬قحافة‭)‬‮ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬أسلم‭ ‬بعد،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عُمِي‭ ‬فقال‭ ‬لها‭: ‬‮«‬إن‭ ‬هذا‭ ‬‭ ‬يقصد‭ ‬أبا‭ ‬بكر‭ ‬قد‭ ‬فجعكم‭ ‬بماله‭ ‬ونفسه‮»‬،‭ ‬فقالت‭: ‬‮«‬كلا‭ ‬يا‭ ‬أبت،‭ ‬إنه‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬خيرًا‭ ‬كثيرًا‮»‬‭. ‬فعمدت‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الحجارة،‭ ‬فجعلتهن‭ ‬في‭ ‬كوة‭ ‬البيت،‭ ‬وغطيت‭ ‬عليها‭ ‬بثوب،‭ ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬بيده،‭ ‬ووضعتها‭ ‬على‭ ‬الثوب،‭ ‬وقالت‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أبت‭ ‬ضع‭ ‬يدك‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المال‮»‬،‭ ‬فوضع‭ ‬يده‭ ‬عليه‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬لا‭ ‬بأس،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬لكم‭ ‬هذا‭ ‬فقد‭ ‬أحسن،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬بلاغ‭ ‬لكم‮»‬‭.‬

يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬المهم؛‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يفكر‭ ‬بهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديه‭ ‬عقل‭ ‬قيادي‭ ‬يفكر‭ ‬بهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الذكاء؟

وفي‭ ‬موقف‭ ‬آخر،‭ ‬وبعدما‭ ‬غادر‭ ‬المهاجر‭ ‬وصاحبه،‭ ‬أتاها أبو‭ ‬جهل في‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬قريش‭ ‬يسألونها‭ ‬عن‭ ‬أبيها،‭ ‬وضربها‭ ‬أبو‭ ‬جهل‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬تجبه،‭ ‬تقول‭ ‬أسماء‭: ‬‮«‬ولما‭ ‬خرج‭ ‬رسول‭ ‬الله صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم وأبو‭ ‬بكر أتانا‭ ‬نفر‭ ‬من قريش فيهم أبو‭ ‬جهل‭ ‬بن‭ ‬هشام،‭ ‬فوقفوا‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬أبي‭ ‬بكر،‭ ‬فخرجتُ‭ ‬إليهم‭ ‬فقالوا‭: ‬‮«‬أين‭ ‬أبوك‭ ‬يا‭ ‬ابنة‭ ‬أبي‭ ‬بكر؟‮»‬،‭ ‬قلت‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أدري‭ ‬والله‭ ‬أين‭ ‬أبي‮»‬،‭ ‬فرفع أبو‭ ‬جهل‮ ‬يده‭ ‬وكان‭ ‬فاحشًا‭ ‬خبيثًا،‭ ‬فلطم‭ ‬خدي‭ ‬لطمة‭ ‬طرح‭ ‬منها‭ ‬قرطي‭ ‬ثم‭ ‬انصرفوا‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬لم‭ ‬تكذب،‭ ‬لأنها‭ ‬بالفعل‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعرف‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬أين‭ ‬بلغوا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الرحلة،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬الخبر‭ ‬بعد،‭ ‬فلا‭ ‬ننسى‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حملها،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تأخذ‭ ‬الطعام‭ ‬لهما‭.‬

ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬كتمان‭ ‬الأمر،‭ ‬وذلك‭ ‬مصداقًا‭ ‬لقول‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ (‬استعينوا‭ ‬على‭ ‬قضاء‭ ‬حوائجكم‭ ‬بالكتمان‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الكتمان‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يلاحظ‭ ‬أنها‭ ‬استعانت‭ ‬خلال‭ ‬الموقفين‭ ‬بالذكاء‭ ‬وحسن‭ ‬الرد،‭ ‬وكانت‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬المواجهة‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬واجهت‭ ‬فرعون‭ ‬الأمة‭ ‬بثبات،‭ ‬وهذه‭ ‬صفات‭ ‬قيادية‭.‬

الجرأة‭ ‬والقوة‭ ‬والعزيمة‭: ‬ربما‭ ‬يُعد‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬أقوى‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬أسماء‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنها‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬الأخير‭ ‬مع‭ ‬ابنها‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬الزبير‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما،‭ ‬فتروي‭ ‬كتب‭ ‬السير‭:‬

أنه‭ ‬قبيل‭ ‬مصرع‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬الزبير‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬بساعاتٍ‭ ‬دخل‭ ‬على‭ ‬أمه‭ ‬أسماء‭ ‬بنت‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬وكانت‭ ‬عجوزًا‭ ‬قد‭ ‬كفَّ‭ ‬بصرها،‭ ‬فقال‭: ‬السلام‭ ‬عليك‭ ‬يا‭ ‬أُمَّه‭ ‬ورحمة‭ ‬الله‭ ‬وبركاته‭.‬

فقالت‭: ‬وعليك‭ ‬السلام‭ ‬يا‭ ‬عبد‭ ‬الله‭. ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬أقدمك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الساعة،‭ ‬والصخور‭ ‬التي‭ ‬تقذفها‭ ‬منجنيقات‭ ‬الحَجَّاج‭ ‬على‭ ‬جنودك‭ ‬في‭ ‬الحرم‭ ‬تهز‭ ‬دور‭ ‬مكة‭ ‬هزًا؟

قال‭: ‬جئت‭ ‬لأستشيرك‭.‬

قالت‭: ‬تستشيرني‭ ‬في‭ ‬ماذا؟

قال‭: ‬لقد‭ ‬خذلني‭ ‬الناس‭ ‬وانحازوا‭ ‬عني‭ ‬رهبة‭ ‬من‭ ‬الحجاج‭ ‬أو‭ ‬رغبة‭ ‬بما‭ ‬عنده‭ ‬حتى‭ ‬أولادي‭ ‬وأهلي‭ ‬انفضوا‭ ‬عني،‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬معي‭ ‬إلا‭ ‬نفر‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬رجالي،‭ ‬وهم‭ ‬مهما‭ ‬عظم‭ ‬جلدهم‭ ‬فلن‭ ‬يصبروا‭ ‬إلا‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬ساعتين،‭ ‬وأرسل‭ ‬بني‭ ‬أمية‭ ‬يفاوضونني‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعطونني‭ ‬ما‭ ‬شئت‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭ ‬إذا‭ ‬ألقيت‭ ‬السلاح‭ ‬وبايعت‭ ‬عبد‭ ‬الملك‭ ‬بن‭ ‬مروان،‭ ‬فما‭ ‬ترين؟

فعلا‭ ‬صوتها‭ ‬وقالت‭: ‬الشأن‭ ‬شأنك‭ ‬يا‭ ‬عبد‭ ‬الله،‭ ‬وأنت‭ ‬أعلم‭ ‬بنفسك؛‭ ‬فإن‭ ‬كنت‭ ‬تعتقد‭ ‬أنك‭ ‬على‭ ‬حق،‭ ‬وتدعو‭ ‬إلى‭ ‬حق،‭ ‬فاصبر‭ ‬كما‭ ‬صبر‭ ‬أصحابك‭ ‬الذين‭ ‬قتلوا‭ ‬تحت‭ ‬رايتك،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬إنما‭ ‬أردت‭ ‬الدنيا‭ ‬فلبئس‭ ‬العبد‭ ‬أنت،‭ ‬أهلكت‭ ‬نفسك،‭ ‬وأهلكت‭ ‬رجالك‭.‬

قال‭: ‬ولكني‭ ‬مقتول‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬محالة‭.‬

قالت‭: ‬ذلك‭ ‬خير‭ ‬لك‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تسلم‭ ‬نفسك‭ ‬للحجاج‭ ‬مختارًا،‭ ‬فيلعب‭ ‬برأسك‭ ‬غلمان‭ ‬بني‭ ‬أمية‭.‬

قال‭: ‬لست‭ ‬أخشى‭ ‬القتل،‭ ‬وإنما‭ ‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬يمثِّلوا‭ ‬بي‭.‬

قالت‭: ‬ليس‭ ‬بعد‭ ‬القتل‭ ‬ما‭ ‬يخافه‭ ‬المرء،‭ ‬فالشاة‭ ‬المذبوحة‭ ‬لا‭ ‬يؤلمها‭ ‬السلخ‭. ‬

فأشرقت‭ ‬أسارير‭ ‬وجهه‭ ‬وقال‭: ‬بوركتِ‭ ‬من‭ ‬أم،‭ ‬وبوركت‭ ‬مناقبك‭ ‬الجليلة؛‭ ‬فأنا‭ ‬ما‭ ‬جئت‭ ‬إليك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الساعة‭ ‬إلا‭ ‬لأسمع‭ ‬منك‭ ‬ما‭ ‬سمعت،‭ ‬والله‭ ‬يعلم‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬وهنت‭ ‬ولا‭ ‬ضعفت،‭ ‬وهو‭ ‬الشهيد‭ ‬عليّ‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬قمت‭ ‬بما‭ ‬قمت‭ ‬به‭ ‬حبا‭ ‬بالدنيا‭ ‬وزينتها،‭ ‬وإنما‭ ‬غضبًا‭ ‬لله‭ ‬أن‭ ‬تستباح‭ ‬محارمه،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬ذا‭ ‬ماض‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تحبين،‭ ‬فإذا‭ ‬أنا‭ ‬قتلت‭ ‬فلا‭ ‬تحزني‭ ‬عليّ‭ ‬وسلمي‭ ‬أمرك‭ ‬لله‭.‬

قالت‭: ‬إنما‭ ‬أحزن‭ ‬عليك‭ ‬لو‭ ‬قتلت‭ ‬في‭ ‬باطل‭.‬

قال‭: ‬كوني‭ ‬على‭ ‬ثقة‭ ‬بأن‭ ‬ابنك‭ ‬لم‭ ‬يتعمد‭ ‬إتيان‭ ‬منكر‭ ‬قط،‭ ‬ولا‭ ‬عمل‭ ‬بفاحشة‭ ‬قط،‭ ‬ولم‭ ‬يجر‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬الله،‭ ‬ولم‭ ‬يغدر‭ ‬في‭ ‬أمان،‭ ‬ولم‭ ‬يتعمد‭ ‬ظلم‭ ‬مسلم‭ ‬ولا‭ ‬معاهد،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬شيء‭ ‬عنده‭ ‬آثر‭ ‬من‭ ‬رضا‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬ذلك‭ ‬تزكية‭ ‬لنفسي؛‭ ‬فالله‭ ‬أعلم‭ ‬مني‭ ‬بي،‭ ‬وإنما‭ ‬قلته‭ ‬لأدخل‭ ‬العزاء‭ ‬على‭ ‬قلبك‭.‬

فقالت‭: ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬الذي‭ ‬جعلك‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يحب‭ ‬وأُحب‭.‬

ثم‭ ‬أردفت‭ ‬أسماء‭ ‬بنت‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنها‭ ‬قائلة‭ ‬لولدها‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬الزبير‭: ‬اقترب‭ ‬مني‭ ‬يا‭ ‬بني‭ ‬لأتشمم‭ ‬رائحتك‭ ‬وألمس‭ ‬جسدك‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬آخر‭ ‬العهد‭ ‬بك‭.‬

وتروي‭ ‬كتب‭ ‬السير،‭ ‬أنه‭ ‬استشهد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭. ‬وبعدها‭ ‬قامت‭ ‬بدفنه‭ ‬وصلت‭ ‬عليه،‭ ‬ووقفت‭ ‬أمام‭ ‬الحجاج‭ ‬حتى‭ ‬اهتز‭ ‬وخرج‭ ‬من‭ ‬أمامها‭ ‬مهزوزًا‭.‬

إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬صفات‭ ‬قيادية،‭ ‬فماذا‭ ‬تكون؟‭ ‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا