تطرقنا في الأسبوع الماضي بـ(أخبار الخليج 28 مايو 2024) إلى قضايا رئيسية برزت من خطابات القادة في قمة البحرين 33 وتمثل في مجملها الحالة العربية كجزء من التصور الاستراتيجي المشترك الذي طرحه القادة كشروط واجبة لمسيرة نهضوية تحفظ للأمة مكانتها وتمكنها من حماية أمنها واستقرارها وازدهارها، وتحقق حلا عادلا للقضية الفلسطينية. مثلت مقترحات القادة منظومة من الإصلاحات شملت أبعادا سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية/ثقافية، تتفاعل لتلخص روح القمة في رسالة تدور حول «الحاجة إلى وحدة عربية» طال انتظارها.
منظومة الإصلاحات التي برزت الحاجة إليها تستدعي التعامل معها مجتمعة بأبعادها الأربعة في تصميم تكاملي وشمولي. نتطرق في هذا المقال إلى البعد الاقتصادي المتمثل في التكامل الاقتصادي العربي كأحد مرتكزات قوة الأمة وعنوان وحدتها. إن أفضل تجسيد للوعي بأهمية الوحدة وأولويتها يتجلى في تحديات التكامل الاقتصادي العربي؛ فالحديث عن التكامل سوف يوضح أهمية وضرورة المعالجة الشمولية المرحلية لتشمل الحكومة والمجتمع والاقتصاد في ثلاثية متكاملة.
قدرة الدول والأنظمة على الاتفاق على حدود دنيا من التعاون، وتَقَبُّل المقايضة والتنازلات والالتزام بما يَتَّفق عليه الغالبية ضمن مؤسسات فوق وطنية تلتزم الدول بقراراتها، إنما هو نتاج مستوى متقدم من الثقة تَتَعزز بوجود حياة سياسية ومؤسسية واجتماعية مستقرة في كل دولة بين المجتمع والدولة والسوق تقوم على العدالة والمساواة والمشاركة الفاعلة تقوى بها الدولة ويزدهر المجتمع وينتعش الاقتصاد. وعلاقات صحية فيما بين الدول، قائمة على مصالح مشتركة وأهداف عليا تؤمن بها الدول والشعوب... فهل توافرت هذه الشروط للدول والشعوب العربية على مدى العقود الثمانية الماضية؟
واجهت الدول العربية تحديات ومعوقات في مسيرة التكامل جعلتها اقل مناطق العالم تكاملا، أهمها التحديات السياسية. بعض هذه التحديات خارجة عن إرادة أصحاب القرار وأخرى ناتجة من مخاوف وغياب الهدف الجامع والنظرة الكلية لمستقبل الأمة المدعومة بالإرادة السياسية.
وعلى سبيل المثال تأثرت قرارات التكامل بمصالح الطبقة التجارية التي لا ترى مصلحة في فتح سوقها المحلي لمنافسة من جيرانها. من ناحية أخرى، ووفق منظمة الاسكوا 2014 (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا)، فقد قوضت النزاعات بين الدول العربية فرص التكامل العربي من عدة أوجه. فقد أسهمت في الاستعانة بعمالة من خارج الوطن العربي، كما أضعفت أجهزة العمل المشترك، وأثرت على مستوى التمويل المتوافر لها وجعلتها قليلة التأثير في القرار وفي التنفيذ. فمثلا اشترط النظام الأساسي للجامعة العربية الحاجة إلى الإجماع في القرارات (بدلا من اعتماد الأغلبية)، وخصوصا في المجلس الاقتصادي والاجتماعي المسؤول عن رسم السياسات ووضع الاستراتيجيات؛ منح ذلك كل دولة حق الفيتو على القرارات؛ بالإضافة إلى أن كثيرا من القرارات والالتزام بتنفيذها يخضع لتقلبات العلاقة بين حكومات الدول. نتج عن ذلك تعقيد في الاوضاع الاقتصادية والادارية وكان سببا في تعثر بعض جهود التكامل.
وفق أحد الباحثين يرى أن السبب في هذا التعثر يعود إلى ثلاثة عناصر أولا عدم قبول الحكومات التنازل عن جزء من السيادة القطرية للمنظمات فوق القطرية، ثانيا عدم تفعيل الأطر المؤسسية الإقليمية الكفؤة التي تحقق التكامل؛ وثالثا وفق أحد الباحثين في ورقته حول «التكامل المتوسطي والتكامل العربي»، أن ضعف المكاسب الاقتصادية يعود إلى الاختلافات الإيديولوجية وعدم تجذر المبادئ والأسس الديمقراطية في كثير من الدول العربية.
كذلك، بالإضافة إلى تحديات الأوضاع الداخلية المعقدة سياسيا واجتماعيا وفكريا، هناك تحديات إقليمية تعبر عنها المشاريع الغربية التي تسعى إلى إفقاد المنطقة هويتها العربية أو طمسها. تُلخص منظمة (الاسكوا 2014) الاهتمام الغربي بالدول العربية في ثلاثة أهداف: ضمان استمرار تدفق النفط؛ الحفاظ على أمن إسرائيل؛ ومحاربة الإرهاب. يضيف (محسن الندوي 2021) أن تعدد الصيغ لطرح هوية بديلة (الشرق أوسطية) جرى الترويج لها منذ مؤتمر مدريد عام 1991 حين طرح الكيان الصهيوني عبر (شمعون بيريز 1993)، مدعوما بالغرب، فكرة «الشرق الأوسط الجديد» تقوم على توافر أربعة عناصر هي وفرة موارد المياه التركية، توسعة السوق الاستهلاكية المصرية، التكنولوجيا الإسرائيلية، وفرة التمويل الخليجي». كما أن هناك مشاريع أخرى أوروبية مع شمال إفريقيا، واتفاقية أوروبية مع مصر وسوريا والأردن عام 1976، كذلك في 1992 أصدرت دول الاتحاد الأوروبي وثيقة السياسة المتوسطية، تلتها ورقة المجلس الوزاري الأوروبي في 1994، وإعلان برشلونة في 1995.
كل هذه الاتفاقيات المغرضة تقدم بدائل لبعض الدول العربية عن التكامل الاقتصادي العربي تحت إغراءات تجارية. فمثلا في 2011 وجهت قمة العشرين دعوة إلى بعض الدول العربية تحت مسمى «دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، وليس لكل الدول العربية، بهدف دعم التطبيع مع الدول العربية، ووضعت شروطا لتطبيق إصلاحات ديمقراطية واقتصادية واجتماعية نَظرت اليها الدول العربية بعين من الريبة. وخصوصا أن أوروبا لم تَعرض على الدول العربية المشاركة في التعاون العلمي الذي كان متاحا للكيان الصهيوني فقط.
يقوم مشروع الشراكة الأورومتوسطية على فرضية نفي الهوية العربية الموحدة، في حين يمثل الجانب الأوروبي طرفا موحدا، ويعمل على تقسيم العرب إلى مجموعات متوسطية وشرقية وخليجية، ولا يتعامل مع الجامعة العربية على انها طرف ممثل للعرب أسوة بمؤسسة المفوضية الأوروبية العليا. كذلك يخصص المشروع الأوروبي للدول العربية قطاعات محدودة تحتاجها أوروبا مثل السياحة وشؤون الصيد وزراعة الفواكه. من دون تعاون مماثل في نقل التكنولوجيا والتصنيع كما تتعامل مع الكيان الصهيوني.
في المقابل تفتقر الدول العربية إلى سياسة موحدة تجاه أوروبا، ففي الوقت الذي ترى دول المغرب العربي في العلاقة الأوروبية فوائد اقتصادية بحتة، ترى دول المشرق ضرورة أن يكون بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي أخذ دور فاعل في تسوية القضية الفلسطينية، في حين تتحفظ دول الخليج بشأن التأثير الثقافي والسلوكي الذي تمثله الحضارة الأوروبية على الهوية الخليجية. وهكذا يبقى التكامل العربي ينتظر إرادة سياسية نأمل أن تتحقق انطلاقًا من نتائج قمة البحرين بقيادة جلالة الملك ومن استيعاب عربي لدروس حرب الإبادة الصهيونية في غزة.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك