يوما بعد آخر تزداد المخاوف من التهديدات التي يمثلها الذكاء الاصطناعي لأسواق العمل، فقد حذرت الباحثة في صندوق النقد الدولي «جيتا جوبينات» من اضطرابات كبيرة قد تشهدها أسواق العمل بسبب أنظمة الذكاء الاصطناعي المنتجة والفعالة من حيث الكلفة، ومن المحتمل أن تؤدي إلى خفض فرص توظيف ملايين الأشخاص، بمن فيهم أولئك العاملون في وظائف تتطلب مهارات وخبرات محددة، لما له من قدرات واسعة على التفاعل السريع مع الاستراتيجيات التي تهدف إلى تحسين اداء المؤسسات وزيادة كفاءتها مثل استراتيجية تحليل البيانات الضخمة عبر تفاعلها وتكاملها مع الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والتنبؤ المستقبلي بما يمكن أن يتحقق في المستقبل. فضلا عن استراتيجيات أخرى تهدف إلى تحسين تجربة العميل، واستراتيجية الاتمتة لتحسين الإنتاجية وتقليص التكاليف.
واستراتيجية التنبؤ والتخطيط التي تهدف إلى توفير تنبؤات دقيقة بشأن مستقبل المؤسسات وتخطيط استراتيجيات وخطط عمل فعالة، وذلك عبر توظيف الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في تحليل البيانات التاريخية وتنبؤ المستقبل بما يخص الأهداف الاستراتيجية.
وتفسر شركة ABM للبرمجيات ماهية الذكاء الاصطناعي بأنه تلخيص دقيق لقدرة أنظمة الحوسبة على التفكير والتصرف مثل البشر، باستخدام مزيج من علوم الكمبيوتر، ومجموعة البيانات، والتعلم الآلي، وحل المشكلات، في ظل هدف نهائي يتمثل بتطوير أنظمة يمكنها التفكير والتصرف بعقلانية، بما يعكس السلوكيات والتفكير البشري والقضاء على الحاجة إلى وجود الإشراف البشري المستمر.
الامر الذي سيؤدي في المستقبل القريب إلى إزاحة أعداد كبيرة من القوى العاملة ذات التحصيل العلمي المحدود والذي لا يؤهلهم لمجاراة متطلبات اعتماد الذكاء الاصطناعي في أسواق العمل، وهذا يمثل مشكلة مركبة اقتصادية وأخلاقية، فمن الناحية الاقتصادية سيصبح جزء غير قليل من القوى العاملة الذين يتم إنهاء عقودهم في حالة بطالة، كما سيمثل قسم مهم منهم عالة على صناديق التقاعد، ومن الناحية الأخلاقية تمثل عملية الإزاحة للقوى العاملة والاستنزاف الذي ستتعرض له صناديق التقاعد عملية غير أخلاقية، وقد كان ذلك أحد الأسباب التي دفعت فريق الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي HLEG والمكلف بدراسة الآثار المتوقع حصولها نتيجة النمو السريع للذكاء الاصطناعي، إلى البحث عن آليات «لجعل الأخلاقيات ركيزة أساسية لتطوير نهج فريد للذكاء الاصطناعي، نهج يهدف إلى إفادة وتمكين وحماية كل من الازدهار البشري الفردي والصالح العام للمجتمع».
بحيث يلعب الذكاء الاصطناعي دور التمكين، بدلا من المثبط لأهداف التنمية المستدامة، مما يتطلب أن يكون مدعوما بالرؤية التنظيمية والرقابة اللازمتين للتقنيات القائمة على الذكاء الاصطناعي لتمكين التنمية المستدامة. وقد يؤدي عدم القيام بذلك إلى ثغرات في الشفافية، ومعايير السلامة، والأخلاق.
ويعد البرلمان الأوروبي سباقا في البحث عن افضل الضمانات الدستورية لحماية حقوق المواطنين من الآثار السلبية المحتملة للذكاء الاصطناعي، فقد كلفت لجنة الشؤون القانونية في البرلمان الأوروبي مديرية حقوق المواطنين والشؤون الدستورية في عام 2016، بإجراء دراسة حول قواعد القانون المدني الأوروبي المتعلقة بالروبوتات، كما دعت العديد من المؤتمرات والمؤسسات الأكاديمية في دول الاتحاد الأوروبي إلى تقنين وتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي عبر اتفاقيات ونظم بإشراف المنظمات الدولية حفاظا على الوجود الإنساني، وترشيدا لاندفاعه السريع، وقدرته الفائقة على اقتحام مختلف القطاعات الاقتصادية والتقنية والطبية ومختلف فروع العلوم بما فيها الاجتماعية.
ولاسيما أن الشركات التقنية والتمويلية في العالم تسارع الخطى في التنافس نحو المزيد من الانفتاح على الذكاء الاصطناعي، فمن المتوقع أن يشهد عام 2024 م صعود نجم الذكاء الاصطناعي واستحواذه على النسبة الكبرى من تمويل البنوك والمؤسسات المالية، وتنامي إقبال شركات التكنولوجيا العالمية نحوه، بالإضافة إلى الشركات الناشئة المتخصصة في تقنيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وبالنسبة إلى الدول العربية، فإن أسواق العمل فيها ليست في منأى عن موج الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يتطلب تخطيطا استراتيجيا جماعيا للتعامل مع إيجابياته والحد من سلبياته على أسواق العمل فيها، فضلا عن وضع إرشادات معيارية وصياغة لوائح تنظم تطبيقاته المفيدة، وتحد من آثار تطبيقاته المضرة والخطيرة في مختلف المجالات، وعليه يلعب القادة التقنيون والأكاديميون والمشرعون ومنظمات المجتمع المدني إلى جانب الحكومات دورًا مهما في رسم مستقبل الذكاء الاصطناعي في الدول العربية وآثاره المحتملة على أسواق العمل فيها، وهي التي تعاني أصلا من اختلالات عديدة في مقدمتها ضعف العلاقة بين نموها من جانب ومؤسسات التعليم العالي من جانب آخر.
الأمر الذي دفع الجمعية المصرية للتنمية التكنولوجية إلى المبادرة بدعوة الأكاديميين والتقنيين والهيئات والمؤسسات ذات العلاقة بأسواق العمل في الدول العربية إلى المشاركة في مؤتمرها العلمي السادس الذي سيتم عقده في المدة (29-30) يوليو2024 في منتجع مرسى مطروح بجمهورية مصر العربية تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي ومستقبل التعليم والبحث العلمي وسوق العمل في الوطن العربي». والذي يؤمل ان يتمخض عن رؤية عربية موحدة لصياغة استراتيجية للتعامل مع الذكاء الاصطناعي وبما يسهم في تعظيم عوائده والحد من تكاليفه.
{ أكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك