يختلف الكيان الصهيوني الذي نراه اليوم اختلافا تاما عما اعتدناه من قبل. يكفي أن نتذكر حاله قبل «طوفان الأقصى»، وأن نقارنه بما أصبح عليه اليوم كي ندرك هذه الحقيقة بوضوح.
قبل «طوفان» الأقصى، كانت تصرفات هذا الكيان تعكس قدرا هائلا من الثقة بالنفس وصل في كثير من الأحيان إلى حد الصلف والغرور والاستهانة التامة بآمال الشعب الفلسطيني وطموحاته. أما اليوم، فيلاحظ أن تصرفاته بدأت تتسم بقدر كبير من الحيرة والارتباك والتخبط وضياع البوصلة، بل إنه يبدو اليوم فاقدا تماما للثقة بنفسه وبقدرته على الصمود والبقاء في وجه التحديات غير المسبوقة التي بات عليه أن يتصدى لها.
في 22 سبتمبر 2023، ألقى بنيامين نتنياهو كلمة أمام الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي يده خريطة متعددة الألوان لمنطقة الشرق الأوسط.
وقد لفت نظر المراقبين وقتها خلو هذه الخريطة من أي ذكر أو إشارة إلى كلمة فلسطين، وتمدد الكيان الصهيوني فوق مساحة شملت الضفة الغربية وقطاع غزة معا، وإشارات نتنياهو المتكررة إلى تزايد عدد الدول العربية التي تقيم علاقات رسمية مع الكيان الصهيوني، وما قد يفتحه ذلك من آفاق بالنسبة إلى السلام والازدهار في منطقة الشرق الأوسط التي بات الكيان الصهيوني مؤهلًا وجاهزًا لتبوء موقع القيادة فيها من الآن فصاعدا.
ولأنه كان على دراية تامة بالجهود التي تبذلها إدارة بايدن بشأن التطبيع، فقد تولدت لدى نتنياهو آنذاك قناعة تامة بأن الكيان الصهيوني بات في وضع يسمح له بقطف ثمرتين كبيرتين في آن واحد: تصفية القضية الفلسطينية وتطبيع العلاقات مع العالم العربي والإسلامي. لكن فجأة، وبلا سابق إنذار، هبت الرياح بما لا تشتهي سفن الكيان الصهيوني.
في صباح 7 أكتوبر 2023، شنت حركة حماس، بالتعاون مع بقية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، هجوماً عسكرياً مباغتاً على القواعد والمستوطنات الواقعة في المناطق المتاخمة لقطاع غزة تمكنت خلاله من اجتياح مساحة واسعة من الأرض المحتلة قبل 1948، وذلك لأول مرة في تاريخ الصراع، وقتل ما لا يقل عن 1200 جندي ومستوطن وأسر ما يقارب 250 آخرين، ما مكنها من تحقيق إنجازين كبيرين: الأول إسقاط أسطورة «الجيش» الذي لا يقهر، وخصوصاً بعدما نجحت في إلحاق هزيمة ساحقة به في معركة خاطفة، والثاني: تأكيد تصميم الشعب الفلسطيني على رفض سياسة الأمر الواقع، حتى لو اضطر إلى الوقوف وحيدا في المعركة، وإثبات أنه قادر بمفرده على تخطيط وتنفيذ عمليات عسكرية كبرى في مواجهة الكيان الصهيوني، بصرف النظر عن الخلل القائم في موازين القوى بين الطرفين، وبالتالي على خداع أجهزة الأمن الصهيونية التي طبقت شهرتها الآفاق.
حين استفاق من هول الصدمة، ساد لدى الكيان الصهيوني تصور مفاده أن ما وقع كان حدثاً استثنائياً ينبغي العمل على ألا يتكرر أبداً، وأنه نجم عن إهمال جسيم يتطلب الكشف عن ملابساته وملاحقة المتسببين فيه عبر تحقيقات تُجرى في الوقت المناسب، كما بدا في الوقت نفسه على يقين بامتلاكه كل الإمكانات والقدرات التي تتيح له سحق وتصفية كل فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة واقتلاعها من الجذور.
ولأن نتنياهو كان على قناعة تامة بأن إدارة بايدن ستسارع إلى تقديم كل ما يحتاجه من غطاء سياسي ومن دعم عسكري، فقد تصور أن بمقدوره استغلال الحدث كذريعة للتخلص من الشعب الفلسطيني نفسه وإجباره على ترك وطنه نهائياً.
اليوم، وبعد ما يقارب 8 أشهر على بدء عملية «السيوف الحديدية»، أي إعلان الحرب الشاملة على قطاع غزة، يبدو الكيان الصهيوني في وضع لا يحسد عليه على الإطلاق، فقد أصبح هذا الكيان عاجزاً تماماً، ليس عن تحقيق أي من الأهداف التي سعى إلى تحقيقها من وراء هذه الحرب فحسب، إنما التصدي أيضاً لعوامل التفكك والانهيار التي بدأت تهب عليه من داخله بسبب ما لحق به من هزائم متتالية على المستويات العسكرية والسياسية والقانونية والأخلاقية.
على الصعيد العسكري، أضافت الفصائل الفلسطينية المسلحة إلى ما تحقق لها من إنجازات في يوم «الطوفان» نفسه إنجازات أخرى لا تقل عنها إبهاراً، بل وربما تفوقها من حيث الأهمية والتداعيات الاستراتيجية، فقد تمكنت هذه الفصائل، ليس من الصمود فحسب أمام آلة الحرب الصهيونية الجهنمية على مدى الأشهر الثمانية المنصرمة، إنما أيضاً من تكبيد «الجيش» الصهيوني خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
ولتبرير إخفاقاته العسكرية المتتالية، ادعى «الجيش» الصهيوني أنه تمكَّن من تحطيم معظم البنية العسكرية لهذه الفصائل، والتي لم يتبق منها سوى 4 كتائب تتمركز في منطقة رفح، غير أن قرار نتنياهو اجتياح رفح واحتلال محور فيلادلفيا الواقع على الحدود بين مصر وفلسطين لم يساعده على تحقيق أي إنجاز يذكر، فها هي فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة تقاتل ببسالة في كل مكان على امتداد القطاع، بما في ذلك شماله ووسطه، وكان بمقدورها إطلاق صواريخ بعيدة المدى على «تل أبيب» من منصات في رفح لا تبعد سوى أمتار محدودة عن المواقع التي يحتلها «الجيش» الصهيوني.
وعلى الصعيد السياسي، حققت القضية الفلسطينية عقب «طوفان الأقصى» وبسببه إنجازات هائلة، بعكس ما كان الكيان الصهيوني يأمل، فقد بدأت هذه القضية تتصدر من جديد جدول أعمال النظام الدولي، بعدما كانت قد أوشكت على التصفية، واتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبأغلبية ساحقة بلغت 144 صوتا ضد 9 أصوات فقط، قراراً يدعو إلى تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرضه المحتلة عام 1967، ويؤكد توافر كل العناصر اللازمة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ويحثّ مجلس الأمن على إزالة كل العقبات التي تعترض قبول فلسطين كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.
وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن عددا من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا، اعترف مؤخراً بدولة فلسطينية مستقلة، وقرر تبادل التمثيل الدبلوماسي معها، لتبين لنا حجم المكاسب التي حققتها القضية الفلسطينية بسبب الصمود العسكري للمقاومة الفلسطينية المسلحة.
على الصعيدين القانوني والأخلاقي، ساهمت التصرفات الهمجية التي قامت بها حكومة الكيان الصهيوني على مدى الأشهر الثمانية المنصرمة، والتي أدت إلى تدمير قطاع غزة بالكامل وتحويله إلى منطقة غير قابلة للحياة، وإلى استشهاد وإصابة وفقد ما يقارب 150 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، في إسقاط القناع عن الكيان الصهيوني وإعادة التذكير بالطبيعة الاستيطانية والتوسعية والإحلالية للمشروع الصهيوني نفسه، والتأكيد بالتالي أن النظام السياسي الذي يتحدث باسمه لا يمكن إلا أن يكون عنصرياً في جوهره، وخصوصاً أنه يقوم بالضرورة على قاعدتي التطهير العرقي والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.
وقد كشفت الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية وما تضمنته من أوامر موجهة إلى حكومة الكيان الصهيوني بضرورة اتخاذ إجراءات احترازية للحيلولة دون ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني ووقف الأعمال العسكرية التي قررت القيام بها في منطقة رفح عن شبهة إقدام الكيان الصهيوني على ارتكاب أعمال إبادة جماعية بالفعل.
وكشفت مطالبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية باستصدار مذكرة اعتقال لكل من رئيس وزراء الكيان ووزير دفاعه أنهما باتا متهمين رسميا بالقيام بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ولا شك في أن هذه الأحكام أدت دورا حاسما في تعبئة وحشد الرأي العام العالمي لنصرة الشعب الفلسطيني وتقديم كل وسائل الدعم له، وخصوصاً الشرائح الشبابية وطلاب الجامعات.
ليس من المستغرب، في سياق ما تقدم، أن يفقد الكيان الصهيوني توازنه إلى حد كبير، وأن تظهر عليه علامات التفكك والانهيار؛ ففي أعقاب «طوفان الأقصى» مباشرة، بدا هذا الكيان كأنه يتصرف وفقاً لنمط تقليدي كان يدفعه دائماً إلى التماسك والوحدة إبان الأزمات، بدليل إقدامه على تشكيل حكومة حرب برئاسة نتنياهو على الفور والتفاف الجمهور حول الأهداف التي حددتها للحرب، غير أن ثقة المواطنين بهذه الحكومة وبقدرتها على تحقيق أهداف الحرب راحت تتبدد بمرور الوقت.
تشير دراسة نشرت منذ أيام قليلة إلى أن معهد الأمن القومي الإسرائيلي أجرى 15 استطلاعاً للرأي منذ بداية طوفان الأقصى وحتى منتصف إبريل الماضي. وقد أثبتت جميع هذه الاستطلاعات أن ثقة الجمهور الصهيوني بحكومته وبقدرة جيشه على كسب الحرب أو على تحقيق الأهداف المرجوة من ورائها تتآكل باستمرار.
لا أعتقد أنني أبالغ إن أكدت أن المجتمع الصهيوني بدأ يتفكك بالفعل، وأن من المتوقع أن يواصل هذا المجتمع تفككه مع استمرار صمود المقاومة الفلسطينية، ما يؤكد دخول المجتمع الصهيوني في مأزق لا فكاك منه.
{ أستاذ العلوم السياسية
في جامعة القاهرة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك