عاش العرب قبل الإسلام مرحلة مهمة وعصيبة حين بعث الله تعالى رسوله محمدًا (صلى الله عليه وسلم) من بينهم حاملًا إليهم راية الحق، ومبشرًا بالرسالة الخاتمة التي اكتملت أركانها، وتمت نعمتها على الناس جميعًا، قال تعالى: (.. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا…) المائدة /.3
اكتمل الإسلام، وتمت نعمته، ووضحت حقائقه، وظهر الحق وزهق الباطل، قال تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) الكهف / 29.
وقال سبحانه وتعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) البقرة / 256.
إذًا، فقد تبين الحق من الباطل، والإسلام لم يحمل الناس على الدخول فيه عنوة لأنه بَيَّنَ حقائقه، ونثر أدلته، وترك للناس. الدخول فيه، الإعراض عنه وذلك بإرادتهم الحرة، والإسلام لا يحتاج إجبار الناس على الدخول فيه إذ لا خير في إيمان يخالطه الشك، ولا دوام لعقيدة تختلط بالأوهام والأساطير، والإسلام لا يريد قوالب، بل يريد قلوبًا عامرة بالإيمان الوثيق.
كان العرب الذين ظهر فيهم الإسلام أمام خيارين لا ثالث لًهما، الأول: أن يبقوا على جاهليتهم، يعبدون الأصنام كما كان يفعل آباؤهم من قبل، أو يدخلوا في الرسالة الجديدة، وهم حين يختارون الإسلام باعتباره الدين الوحيد الكامل الذي رضيه الله تعالى لعباده المؤمنين الذين صدَّقوا بالدعوة الجديدة، واختاروا بإرادتهم الحرة أن يكونوا من أتباع الدين الخاتم، والشريعة الخاتمة التي نزل بها كتاب كريم، وهو المعجزة الوحيدة الباقية من معجزات الرسل الكرام، وصار الإسلام بكماله وتمام نعمته دين جميع الرسل والأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. والدخول في الدين: القديم – الجديد، قديم في عقيدته، جديد في شريعته وشموليته التي جمعت بين المعجزة الدالة على صدق الرسول في بلاغه عن الله تعالى وبين المنهاج، قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا …) المائدة / 48.
لقد ظهر جيل معاصر لفجر الدعوة الإسلامية أطلق عليه وصف (الجيل القرآني) وتساءل احد المفكرين: لماذا لا يوجد الآن جيل قرآني كما كان في الماضي؟ وفي محاولة للإجابة عن هذا التساؤل، قال: في بداية ظهور الإسلام كان الرجل يتحول من الشرك بالله سبحانه إلى الإيمان، وبذلك يفتح صفحة جديدة، بيضاء ناصعة البياض من حياته، أما الآن، فالمسلم يولد مسلمًا بالفطرة التي فطره الله تعالى عليها، هو مسلم لا شك في ذلك لكن إسلامه به شيء من الدخن، وأين لنا من مثل عمر بن الخطاب الذي أبى عليه إيمانه الخالص أن يكون له صحيفة سوابق يشار إليها، أو قد يُعَيَر ُ بها في إسلامه رُغمَ أن الإسلام هو ميلاد جديد للإنسان، وأنه – أي الإسلام – يَجَبُّ ما كان قبله، وهو الوحيد المتفرد الذي فعل هذا، بل لقد آل على نفسه ألا يتعرض للعذاب من كفار قريش كما تعرض المؤمنون لنفس العذاب الذي نالوه على يديه في جاهليته ((رضوان الله تعالى عليه).
وحين أراد عمرو بن العاص (رضي الله عنه) أن يسلم اشترط على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يغفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه، قال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يا عمرو بايع فإن الإسلام يَجُّبُ ما كان قبله، وأن الهجرة تَجُّبُ ما قبلها» حديث صحيح من رواية عمرو بن العاص (رضي الله عنه).
إذًا، فبمجرد أن يبايع الكفار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تمحى صحائفهم، وتستبدل بصحائف بيضاء، ناصعة البياض، وكأن يوم إسلام الكافر هو يوم جديد يستقبل به حياة جديدة، ويحاسب المسلم الجديد على ما يعمل من الحسنات والسيئات، أما ما سلف من معاصيه، فقد عفا الله تعالى عنها، ومن المسلمين من نطق بالشهادة، ولَم يمهله العمر لأن يركع ركعة واحدة، ورُغم ذلك كانوا من الشهداء الذين فازوا بالجنة. وهكذا كان إسلام عمر بن الخطاب لم يكن إسلامًا عاديًا، بل كان إسلامًا، متميزًا، قال عنه الًصحابي عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): كان إسلام عمر نصرًا، وكانت هجرته فتحًا، وكانت خلافته رحمة، وقال عنه الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وكرم وجهه): كلنا هاجرنا سرًا إلا عمر لما أراد الهجرة تقلد سيفه، وحمل حربته، ثم طاف بالبيت وجاء إلى قريش في ناديها، وقال لهم: شاهت الوجوه: إني مهاجر إلى ربي، فمن أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل زوجه، فليلحقني وراء هذا الوادي، فلم يلحقه أحد!.
والسؤال الذي قد يشغل بال الكثيرين هو: هل بالإمكان أن يظهر جيل قرآني في العصر الحديث؟ والإجابة عن هذا السؤال: نعم بالإمكان ذلك إذا قام المسلمون بدراسة الإسلام، والتعمق في فهم وسائله وغاياته، والحرص الشديد على أن تكون لكل مسلم رسالة يسعى إلى تحقيقها، وغاية نبيلة يجتهد في بلوغها، فيدرك اسمه في لوحة الشرف التي سجلت فيها أسماء الجيل الأول من عظماء الإسلام.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك