في الثالث من يونيو 2024 أشارت مصادر إعلامية إلى افتتاح الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع في المملكة العربية السعودية جامعة الدفاع الوطني لتحل محل كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة، ووفقاً لتصريحات رئيس هيئة الأركان العامة بالمملكة تهدف تلك الجامعة أن تصبح بحلول عام 2030 جامعة رائدة ومتميزة إقليمياً في إعداد وتأهيل القادة العسكريين والمدنيين في مجال الأمن والدفاع الوطني، ويجيء ذلك القرار ضمن اهتمام متزايد من دول الخليج العربي عموماً بمؤسسات التعليم العسكري التي توجد في الدول الست مع اختلاف مسمياتها وسنوات تأسيسها، وهو ما يثير تساؤلات حول أسس إنشاء أهمية تلك المؤسسات وتأثيرها في خطط التنمية وغيرها من المجالات الأخرى، وفي تقديري أن دول الخليج العربي تنطلق في تأسيس وتطوير مؤسسات التعليم العسكري من خبرات أفراد القوات المسلحة والعناصر المدنية التدريبية في كليات مماثلة، ومنها التحاق هؤلاء الأفراد بدورات تدريبية في الكليات العسكرية العريقة في مقدمتها كلية الدفاع بحلف الناتو بروما، والتي تعد نموذجاً لترسيخ التعاون المدني- العسكري في التفكير الاستراتيجي من خلال سلسلة متميزة من الدورات التي وإن تنوعت موضوعاتها ومددها الزمنية لكنها في النهاية تستهدف تطوير التفكير الاستراتيجي، وخاصة خلال الأزمات والتي تخصص لها الكلية تمريناً سنوياً يضم مشاركين من دول الحلف والدول الشريكة. ولدى دول الخليج العربي قناعة تامة بأهمية تلك المؤسسات العسكرية في مسارات عديدة أولها: أن تكون ضمن أسس تنفيذ الرؤى الاقتصادية الطموحة ومنها رؤية 2030 في المملكة والتي من بين أهدافها توطين نسبة 50% من الصناعات العسكرية في المملكة بحلول ذلك العام. ولا شك أنه بالإضافة إلى الجهد التقني للمؤسسات العسكرية في المملكة، فإن هناك حاجة إلى جهد فكري مواز يكون التخطيط الاستراتيجي أحد ملامحه، والذي يتضمن خيارات وبدائل مهمة بشأن اتخاذ القرارات في ذلك المجال، وهو ما توفره مثل تلك المؤسسات من خلال برامج أكاديمية ودورات ودبلومات متخصصة، وثانيها: أن تكون مؤسسات التعليم العسكري منبراً مهماً لمناقشة القضايا الملحة ذات التأثير على عمل القوات المسلحة ومن ذلك أن الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته كان هو موضوع المنتدى السنوي الأول لكلية الدفاع الوطني في سلطنة عمان عام 2024 ولاشك أنه مثل تلك المنتديات تكون فرصة لاستضافة خبراء في تلك القضايا بما يتيح تبادل الخبرات البحثية والعملية، وثالثها: أن تكون تلك المؤسسات حلقة الوصل مع نظيرتها في العالم، وخاصة أن بعض المنظمات العسكرية مثل حلف شمال الأطلسي «الناتو» يولي التعليم العسكري أهمية بالغة ليس فقط للحلفاء ولكن مع الشركاء من خلال مبادرة استانبول التي انضمت إليها أربع دول خليجية وأطلقها الحلف عام 2004.
وفي تقديري أن اهتمام دول الخليج العربي والتي تقع ضمن محيط إقليمي مضطرب بتأسيس وتطوير مؤسسات التعليم العسكري يقدم لها قيمة مضافة في ثلاثة مجالات على سبيل المثال لا الحصر أولها: أن تكون المستجدات الأمنية محل البحث والدراسة الأكاديمية ومن ذلك على سبيل المثال اهتمام الأكاديمية الملكية للشرطة بمملكة البحرين بالعلوم البحرية والأمن السيبراني وإدارة الأزمات سواء من خلال المقررات الدراسية أو اهتمام الدراسين بإعداد رسائل لنيل درجة الماجستير في تلك المجالات ولاشك أنها تمثل أساساً مهماً للتعامل مع تلك التحديات، وثانيها: مع أهمية الخبرات العملية في بعض المجالات مثل إدارة الأزمات والكوارث ولكن تبقى لتمرينات المحاكاة أهميتها البالغة وهي الفكرة التي يتم تطبيقها في العديد من الكليات العسكرية المرموقة في العالم من خلال تقديم سيناريو دراسي لأزمة افتراضية تجتمع فيها كافة عناصر الأزمة وتكون مسؤولية الدارسين التعامل معها وفقما تتطلبه طبيعة تلك الأزمة ولاشك أنه أحد التمارين المفيدة للغاية، فمن خلاله يتم تحديد القدرات والموارد والفجوات إن وجدت ويتم العمل على تلافيها حال حدوث أزمة حقيقية مماثلة، وثالثها: الدمج بين العناصر العسكرية والمدنية في صياغة التفكير الاستراتيجي، فلكل منهما مجاله المحدد ولكن الجمع بينهما أصبح سمة لكافة المؤسسات العسكرية من منظور تكامل الجهود التي فرضها تغير طبيعة الأمن ذاته فلم يعد عسكرياً بحتاً، فالأمن الغذائي والمائي وتلوث البيئة بل الدعاية المضللة ذاتها أضحت مجالات للأمن ولعل الأمر اللافت للانتباه أن منظمات دفاعية مثل حلف شمال الأطلسي «الناتو» بدأت تولي مثل تلك القضايا اهتماماً بالغاً، ففي وثيقته للجنوب التي أطلقها الحلف في مايو 2024 تضمنت سعي الحلف لافتتاح مركزين في شمال إفريقيا حول التلاعب بالمعلومات والمناخ والأمن.
ومع أهمية القول بأن تنامي الاهتمام الخليجي بتلك المؤسسات العسكرية إنما يعكس أمراً مهماً وهو دور البحوث عموماً في دعم صانع القرار بل وتطوير قدرات الكوادر العسكرية والمدنية، ففي تصوري أن ثمة مقترحات لتفعيل عمل تلك المؤسسات من بينها وضع أولويات دراسية ترتبط بالاحتياجات الأمنية لدول الخليج العربي فالآن لا شك أن إدارة الأزمات والكوارث، وخاصة البحرية منها، مجال يحظى باهتمام كافة دول المنطقة ويمكن أن يكون هناك تكامل بين عمل تلك المؤسسات، فضلاً عن تحدي الأمن السيبراني، ففي ظل التحول الرقمي في الخليج وما به من فرص هائلة تتمثل في البنية التحتية الرقمية المتميزة فإنها تظل مهددة بتهديدات سيبرانية ترتب خسائر فادحة، بالإضافة إلى حروب المعلومات وتأثيرها على الأمن الوطني للدول وذلك على سبيل المثال لا الحصر، من ناحية ثانية أهمية أن تنهض تلك المؤسسات على كوادر وطنية، صحيح أن هناك أهمية لاستقطاب كفاءات من مؤسسات إقليمية أو دولية مماثلة، ولكن تأسيس كادر وطني يظل هو حجر الزاوية في نجاح تلك المؤسسات لقدرته على بلورة الاحتياجات الأمنية وسبل مواجهتها. من ناحية ثالثة، فإن التكامل بين عمل تلك المؤسسات في دول الخليج العربي يظل أمراً مهماً يتوازى مع مشروعات التكامل في المجال العسكري ضمن منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
إن دول الخليج العربي التي تواجه قائمة من تهديدات الأمن الإقليمي غير مسبوقة ليس أقلها تأثيرا التكنولوجيا على الصراعات الإقليمية ، فضلاً عن تنفيذ رؤى تنموية مستدامة، بالإضافة إلى استمرار احتدام التنافس العالمي تجاهها ضمن عالم متغير هي في حاجة ماسة اليوم إلى مثل تلك المؤسسات العسكرية المهمة لتضطلع بدورها لدعم جهود الحفاظ على الأمن الوطني والخليجي من خلال تأهيل كوادر بشرية مدربة ومؤهلة لديها القدرة ليس فقط على التعامل مع الحالات الطارئة بل التخطيط الاستراتيجي العسكري البعيد المدى وقراءة البيئة الإقليمية والدولية بمستجداتها المتسارعة والمتشابكة على نحو غير مسبوق.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك