يحكي جدي في أوراقه الصفراء القديمة هذه الحكاية عن صديقه، يقول: كان لدي صديق يعمل في التحطيب، وكان الحطب يأتي به من مكان بعيد بالإضافة إلى أنه شحيح، إلا أنه مُصر على العمل في هذا المجال إذ لا يعرف غيره.
وكان في كل صباح يذهب إلى تلك الأماكن البعيدة التي يقطع فيها الأشجار باستخدام منشاره البالي، ويعود في المساء ليبيع الحطب للراغبين فيه، وكان يجني بضع قطع من المال.
وذات يوم أخذ استراحة وأتي معي إلى السوق، وهناك جلسنا في القهوة (المقهى) نحتسي الشاي، وشاهده أحد الجالسين معنا والذي كان يعمل أيضًا في مجال التحطيب وقطع الأشجار، فقال له: إن كنت ترغب، فأنا يمكنني أن أقول للتاجر الذي نعمل معه أن يوظفك معنا، فإن (فلان – اسم التاجر) رجل شهم وأمين وصادق، وسيجزل لك العطاء إذ يجزي كل ذي حق حقه، بدلاً من هذا الجهد الذي تعيش فيه.
فكر صديقي قليلا، ثم التفت إليّ وقال: ما رأيك ؟
قلت: على بركة الله، هذا أفضل من كل هذه المعاناة التي تعيشها.
وبالفعل، في اليوم الثاني ذهبا معًا إلى تاجر الأخشاب، واتفقا على مبلغ نظير كل شجرة يقطعها. وبعد أن تم الاتفاق قدم له التاجر منشارًا وفأسًا بدلاً من المنشار البالي الذي كان يملكه، ثم دله على مكان الأشجار والحطب الذي ينبغي أن يعمل عليه.
يقول جدي، ذهب صديقي متحمسًا في اليوم الثاني، فقطع في اليوم الأول حوالي 15 شجرة، وجزأها إلى قطع صغيرة وحضرها للبيع، وفي نهاية اليوم، نظر التاجر إلى عمل صديقي ففرح بذلك، وقال له: «بوركت على هذا الإنجاز». ثم دفع له مستحقاته من المال. نظر صديقي إلى كمية المال التي بين يديه ففرح بها، إذ إنها ضعف المبلغ الذي عادة يكسبه في الأيام السابقة.
استمر العمل على هذا المنوال مدة أسبوع تقريبًا، ولكن في الأسبوع الثاني لم يستطع صديقي أن يقطع أكثر من 10 أشجار، ويحضرهم، وعندما شاهد التاجر تلك الكمية لم يقل شيئًا، وإنما كالعادة دفع له المبلغ المستحق فقط. واستمر الانخفاض في عدد الأشجار المقطوعة على هذا المنوال، إذ بلغت في الأسبوع الثالث حوالي 7 أشجار، والأسبوع الرابع 5 أشجار وهكذا. عندها قام صاحبي بوضع اللوم على نفسه، إذ اعتقد أنه فقد الحماس أو خارت قواه الجسدية أو ربما أي شيء آخر، لذلك قرر أن يعتذر من التاجر ويبرئ نفسه حتى لا يقطع أو على الأقل يخفض من المستحقات اليومية لقطع الأشجار.
وعندما دخل صديقي على التاجر – كما يقول جدي في أوراقه الصفراء – وشرح له المعاناة التي يعيشها والتي لا يعرف لها سببًا واضحًا وطلب أن يغفر له هذا القصور.
قال التاجر: قل لي ما الذي كنت تفعل طوال الشهر الماضي؟
قال صديقي: كنت أذهب كل صباح، وفي الأيام الأخيرة قبل الشروق، وأبكر بساعات، وأستمر في القطع والتقطيع، وأعمل بكل جهد ومثابرة، ولا أعود إلا في المغرب وربما بعد أن تغيب الشمس بساعات، وكنت أبذل قصارى جهدي كي أقطع أكبر عدد من الأشجار يوميًّا من أجل أن أكسب أكبر قدر من المال، ولكن.. لا أعرف ما الذي يحصل معي.
التاجر: متى آخر مرة شحذت (حددّت) فيها منشارك وفأسك؟ متى آخر مرة أخذت راحة لنفسك؟ متى آخر مرة جلست فيها مع أهل بيتك وأطفالك؟
فوجئ صديقي من كلام التاجر، فقال: ليس لدي الوقت لمثل هذه الأمور، فقد كنت مشغولاً طوال الشهر الماضي في قطع الأشجار. ولماذا أشحذ منشاري وهو يعمل؟
التاجر: لا تأتي للعمل غدًا، وإنما خذ منشارك وفأسك واذهب بهما إلى الحداد وحدّهما واشحذهما، وخذ استراحة واجلس مع أولادك ومالك حق محفوظ إن شاء الله.
وفي اليوم التالي أخذ صديقي المنشار والفأس للحداد لإعداد شحذهما وتأهيلهما حتى يستعد للعمل في اليوم التالي، فقال له الحداد: أيها الرجل إن منشارك وفأسك تم استهلاكهما بأبشع صورة، هذه الأدوات دائمًا تحتاج إلى شحذ وإعادة تأهيل.
ينهي جدي هذه الحكاية عند هذا الحد، ولكن ما الذي يعني ذلك؟
وأنا اقرأ في هذه الأوراق الصفراء الخاصة بجدي ومن صندوقه الحديدي، كنت أتذكر كتاب (العادات السبعة للناس الأكثر فعالية) للكاتب ستيفن كوفي والذي حدد مصطلح (اشحذ المنشار) على اعتبار أنها العادة السابعة، ترى ماذا يقول كوفي:
«لا بد أن تتضمن عملية التجديد الذاتي تجديدًا متوازنًا للأبعاد الأربعة لطبيعتنا: البدنية والروحية والعقلية والاجتماعية/ العاطفية. ورغم أهمية تجديد كل واحد من الأبعاد، فإن هذا التجديد لا يصبح فعالاً بشكل كامل إلا إذا تعاملنا مع الأبعاد الأربعة تعاملاً حكيمًا ومتوازنًا، فإهمال واحد منها يؤثر سلبًا في البقية.
وهذا الأمر يصدق على المؤسسات والأفراد على حد سواء، ففي مؤسسة ما يفسر البعد البدني على أساس اقتصادي، والبعد العقلي أو النفسي يتعامل مع التقدير والتطوير واستخدام المواهب، أما البعد الاجتماعي أو العاطفي فإنه يتعامل مع العلاقات الإنسانية وأسلوب معاملة الناس، ويتعلق البعد الروحي باكتشاف المعاني من خلال الأغراض أو الإسهامات ومن خلال التكامل المؤسسي.
وعندما تهمل مؤسسة أي واحد من هذه الجوانب الأربعة فإنه يؤثر تأثيرًا سلبيًا في المؤسسة بأسرها، وتتحول الطاقات الخلاقة والإبداعية التي يمكن أن تتكاتف معًا بإيجابية إلى طاقة هدامة تستخدم ضد المؤسسة، وتتحول إلى قوى مفيدة للنمو والإنتاجية».
ماذا يعني ذلك؟
يعني بكل بساطة، أنه يجب التجديد الذاتي للنفس والبدن بصورة يومية، أي أن شحذ المنشار يعني الحفاظ على أعظم ما لدى الإنسان وهي نفسه، وهذا يعني أن يكون لدى الإنسان برنامج متزن للتجديد الذاتي في الجوانب الأربعة من حياته: الجانب الجسدي، والاجتماعي/العاطفي، والعقلي، والروحي.
فعندما يعمل الإنسان على تجديد طاقته في هذه الجوانب الأربعة، فإنه حتمًا سيحقق النمو والتغيير في حياته، فشحذ المنشار يساعده على الحفاظ على طاقته حتى يتسنى له الاستمرار في الحياة بكل هدوء وسعادة، وهذا يزيد من قدرة الإنسان على الإنتاجية والتعامل مع التحديات، ومن غير الشحذ والتجديد؛ يصبح الجسد واهنًا ضعيفًا، والعقل آليًا، والمشاعر جافة، والروح مرهقة، ويصبح الإنسان أنانيًّا.
حسنٌ، ماذا يمكننا أن نفعل؟
يمكننا أن نعيد ترتيب حياتنا وتجديدها وفقًا للأبعاد الأربعة التي ذكرت في كتاب (العادات السبعة) كالتالي:
أولاً: البعد البدني؛ على الإنسان أن يعتني بجسمه، وبصحة جسمه، وبالطعام الصحي، وبممارسة الرياضة بانتظام، وإدارة الضغوط، وإدارة الغضب، وما إلى ذلك.
ثانيًا: البعد الاجتماعي والعاطفي؛ ويعني أن نُحسن التعامل مع أنفسنا وقراءة مشاعرنا، وأن نحسن قراءة مشاعر الآخرين والتعامل معهم، وهنا تأتي أهمية علاقة الإنسان بالآخرين وصلته بهم وخاصة مع الوالدين والزوج أو الزوجة، والأرحام، وزملاء العمل، والأصدقاء، وكذلك مختلف العلاقات الاجتماعية، فإن كانت علاقتنا مع أهم الناس سيئة فمهما حققنا من نجاحات فلن نكون سعداء.
ثالثًا: البعد العقلي؛ وربما من أهم الأمور التي ينمي فيها الإنسان هذا البعد القراءة، وحضور الندوات والملتقيات الثقافية والفكرية والعلمية، المناقشات الجادة الهادفة، والابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي بقدر الإمكان، فالتعلم ليس مجرد شهادة تنال وإنما هو الخبرة الحقيقية التي يأخذها الإنسان من مدرسة الحياة، وهناك فرق جِدُّ كبير بين الحياة في مدرسة ومدرسة الحياة، ففي المدرسة نأخذ الدروس والمعلومات ثم نذهب إلى الاختبار وبعدها نحصل على الشهادة، أما في الحياة فشاء الإنسان أم أبى فإنه سيمر بامتحانات كثيرة ستكون له دروسا يتعلم منها إن شاء أو يحبط منها كذلك إن شاء.
رابعًا: البعد الروحاني؛ ما رسالتك في هذه الحياة؟ ما أعمق ما تؤمن به وتريد أن تصل إليه؟ ما الغاية العظمى التي أوجدك الله على هذه البسيطة لأجلها؟ ما الطريق الذي تسير به وإلى أين سيوصلك؟
ويمكن أن يلاحظ أن فكرة شحذ المنشار ليست بعيدة عن الفكر الإسلامي، فقد وجدنا أن الدين الإسلامي في كل جزئياته يدعو وبصريح العبارة إلى شحذ المنشار سواء بصورة يومية وذلك في الصلوات الخمس وقيام الليل وما إلى ذلك، بصورة شهرية وذلك بختم القرآن الكريم وفعل أعمال الخير، وبصورة سنوية مثل مواسم رمضان والحج وما إلى ذلك.
ولقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإيمان ليخلقُ في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم»، رواه الطبراني والحاكم. ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا النوع من الفكرة فقد ورد في الأثر أن الصحابي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قال لأبي الدرداء رضي الله عنه حينما التقى «هيا بنا نؤمن ساعة، فإن القلب أسرع تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا»، وقول معاذ بن جبل رضي الله عنه لصاحبه وهو يذكره «اجلس بنا نؤمن ساعة».
هذه المفاهيم تعد منهاج حياة وجزء امن مفهوم الفكر والعقيدة الإسلامية التي نود أن نخرجها ونطلقها من المساجد وأن نحصرها في العبادات فقط، فالإسلام دين أوسع من أن يحبس في المساجد فقط.
ويبقى السؤال المطروح؛ هل اطلع (ستيفن كوفي) على المنهاج الإسلامي قبل أن يكتب كتابه (العادات السبعة)؟ لا أعلم.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك