تعد التأشيرة الموحدة من أهم الإجراءات التي تم اتخاذها في السنوات الأخيرة في مسار التكامل الاقتصادي الخليجي، وقد جاءت لتتوج الجهود الوطنية لجهة النهوض بقطاع السياحة، وجعله خيارًا أساسيًا في سياسات تنويع مصادر الدخل، حيث تعود بالنفع ليس فقط على هذا القطاع، ولكن تمتد آثارها إلى جوانب عديدة في هذا التكامل، ومن شأنها الدفع في اتجاه تسريع الخطوات بشأن استكمال الاتحاد الجمركي، والسوق المشتركة، والوحدة النقدية.
ومن المعلوم، أن التأشيرة الموحدة تجعل السوق السياحي في دول الخليج «كيانًا واحدًا»، حيث تتيح لحاملها زيارة جميع دول الخليج، ويخدم هذا بشكل أساسي السياحة الوافدة من خارج المنطقة، لكنه يعزز في الوقت ذاته السياحة البينية بين دول مجلس التعاون، كما تسهم هذه الخطوة أيضا في تسريع تنفيذ مشروع السكة الحديدية الخليجية، الذي يعتبر عنصرًا أساسيًا في البنية التحتية الداعمة للسوق الخليجية الموحدة.
وكان وزراء السياحة في دول المجلس قد اعتمدوا هذه التأشيرة في اجتماعهم السابع بمسقط العام الماضي، وناقش تطبيقها وزراء الداخلية، وتم رفعها إلى القادة، وأقرها المجلس الأعلى في البيان الختامي في ديسمبر 2023. وفي القمة الـ(44) التي عقدت في الدوحة تم تحديد دخولها حيز التنفيذ خلال عامي 2024 و2025 بحسب جاهزية الأنظمة الداخلية للدول الأعضاء. ويتماشى اعتماد هذه التأشيرة مع التطور والنهضة التنموية التي تشهدها دول المجلس على مختلف الأصعدة، وفيما تسهم في تسهيل انتقال السياح والزوار الوافدين بين دول المجلس، فإنها تعزز دور السياحة كمحرك للنمو الاقتصادي، وتفتح فرصا جديدة للاستثمار في القطاع السياحي في كل الدول الأعضاء. ويتزامن دخول التأشيرة الخليجية الموحدة مرحلة التنفيذ، مع استكمال خطوات قيام الاتحاد الجمركي وفق مقررات القمة الخليجية الـ(43) بالرياض، التي كلفت لجنة التعاون المالي والاقتصادي بمتابعة استكمال خطوات قيامه قبل نهاية 2024، حيث يعد هذا الاتحاد من أهم مراحل «الوحدة الاقتصادية الخليجية»، المزمع الوصول إليها في 2025، ويقوم على تعريفة جمركية موحدة إزاء العالم الخليجي، وقانون جمركي موحد، وتوحيد الأنظمة والإجراءات الجمركية والمالية والإدارية الداخلية المتعلقة بالاستيراد والتصدير، وإعادة التصدير في دول المجلس، وانتقال السلع بين دول المجلس دون قيود جمركية أو غير جمركية، ومعاملة السلع المنتجة في أي دولة عضو معاملة المنتجات الوطنية.
وجاء إقرار «قمة الدوحة»، للتأشيرة الموحدة، ضمن متابعة «الاستراتيجية الخليجية السياحية المشتركة 2023 – 2030»، والتي أقرتها القمة الخليجية الـ(43)، وتستهدف زيادة مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي الإجمالي، من خلال زيادة الرحلات البينية، وعدد نزلاء الفنادق على مستوى دول الخليج، وجعلها الوجهة السياحية الرائدة على مستوى العالم للسياح الإقليميين والعالميين، مع امتلاكها بنية تحتية متطورة ومؤهلة، إذ لديها 10649 منشأة فندقية بنهاية 2022 بنسبة نمو 1.2%، مقارنة بـ 2016 تضم 674832 غرفة، إلى جانب 837 موقعا سياحيا ونحو 224 فعالية ونشاطا.
وتستهدف الاستراتيجية زيادة الرحلات الوافدة إلى دول المجلس بمعدل سنوي 7%، والوصول إلى رقم 128.7 مليون زائر بحلول 2030، من 39.8 مليون زائر في 2022، بنمو 136.2% مقارنة مع 2021، كما تستهدف زيادة إنفاق السياح بمعدل سنوي 8% ليصل إلى 96.9 مليار دولار بنهاية 2023 بنمو 12.8% مقارنة مع 2022، والوصول إلى 188 مليار دولار بحلول 2030. وتستهدف دول المجلس زيادة الناتج المحلي الإجمالي المباشر لقطاع السفر والسياحة بمعدل سنوي 7%، وأن تصل القيمة المضافة لهذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى 185.9 مليار دولار في 2023، بنمو 8.5% عن 2022 الذي حققت فيه 171.4 مليار دولار. ويعزز القدرة التنافسية لقطاع السياحة الخليجي ما تنعم به دول مجلس التعاون من أمن، وأمان، واستقرار سياسي واقتصادي؛ ما يجعل هذا القطاع جاذبًا لمزيد من الاستثمارات، ويعزز دوره في خطى التنمية المستدامة.
علاوة على ذلك، تخدم التأشيرة الموحدة السياسات التي تبنتها دول مجلس التعاون الخليجي في السنوات الأخيرة لتعزيز القطاع السياحي. وتشمل هذه السياسات التوسع في تنظيم الأحداث العالمية الكبرى، وتطوير المشاريع السياحية، وتوسيع البنية التحتية السياحية، وتنويع نظام التأشيرات السياحية، وتقديم تسهيلات السفر للسياح، بالإضافة إلى مواصلة دعم قطاع الطيران، وتطوير البنية المؤسسية لقطاع السياحة والسفر. وتهدف هذه الجهود إلى زيادة مساهمة السياحة في الاقتصاد، حيث بلغت هذه النسبة قبل جائحة كورونا 9.7% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي لدول الخليج في عام 2019، وفي هذا العام كانت مساهمة دول الخليج في إجمالي حركة السياحة العالمية نحو 3%.
وفي تأكيد هذا، تمتلك دول مجلس التعاون، شبكة طيران واسعة تربطها بالعالم تضم 13 شركة، فيما تعمل على الانضمام لتحالفات طيران دولية، وتوقيع اتفاقات شراكة بالرمز مع شركات الطيران العالمية؛ لتطوير نموها، وتقديم خدمات أكبر للمسافرين، وتسيير عدد أكبر من الرحلات. ومن أمثلة تنظيم الأحداث العالمية، «معرض إكسبو دبي 2020»، حيث بلغ عدد المسافرين حينها عبر مطار دبي نحو 11.8 مليون شخص، وحققت «دبي»، أعلى نسبة إشغال فندقي في العالم، بنسبة بلغت 85% خلال الشهر الأخير للمعرض في مارس 2022، ومن هذه الأمثلة أيضًا تنظيم قطر «بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022»، حيث استضافت أكثر من مليون زائر، وحققت عائدات مالية بلغت نحو 17 مليار دولار، منها أيضًا استضافة السعودية «القمة العالمية السنوية للمجلس العالمي للسياحة والسفر»، في ديسمبر 2022، وتنظيم مملكة البحرين سنويًا «سباق الفورمولا (1)»، الذي يعد من أهم روافد الاقتصاد البحريني.
وشمل توسيع البنية السياحية، زيادة المنشآت الفندقية، وزيادة طاقتها الاستيعابية، ومن أمثلة تنويع نظام التأشيرة السياحية، ما أتاحته الإمارات في 2022 للأجانب من جميع الجنسيات من الحصول على تأشيرة سياحية متعددة الدخول صالحة لمدة خمس سنوات من تاريخ الإصدار، شريطة البقاء في الدولة لمدة لا تزيد على 90 يومًا في السنة الواحدة، كما أطلقت السعودية في 2019 تأشيرة لمدة عام للزوار من خارج المملكة لمدة إقامة تصل إلى 90 يوما. وفي أكتوبر 2022 عممت سلطنة عُمان على مطاراتها السماح لجميع المقيمين في دول مجلس التعاون دخول البلاد دون تأشيرة مسبقة.
كما شمل «التطوير المؤسسي»، إنشاء وزارة معنية للسياحة كما فعلت مملكة البحرين، ورقمنة القطاع السياحي من خلال عدة برامج كما فعلت السعودية، وإلى جانب ذلك سلكت دول الخليج سياسات داعمة لقطاع السياحة، تضمنت تقديم برامج سياحية مشتركة، وتنويع الأسواق السياحية، وتطوير السياحة الداخلية والبينية، ومن أمثلة البرامج السياحية المشتركة استضافة الإمارات، والسعودية، وعُمان زوار قطر أثناء تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم، ومن أمثلة تنويع الأسواق السياحية الحرص على أسواق غير تقليدية كروسيا، والهند، وفرنسا، وألمانيا، وطرح حملات تسويقية تستهدف سياح هذه البلاد، ومن أمثلة تطوير السياحة الداخلية والبينية تقديم حوافر للمواطن الخليجي لجعل دول الخليج اهتمامه الأول عند قراره في السفر الخارجي.
وتستهدف التأشيرة الموحدة تعظيم العوائد الاقتصادية للسياحة، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص والمجتمعات المحلية في التنمية السياحية، واعتماد قطاع السياحة كأداة فاعلة لتحسين دخل المواطن والحد من البطالة، وتعزيز مبدأ الشراكة في الإدارة الوطنية للسياحة، ورفع كفاءة البناء المؤسسي للقطاع السياحي، ووضع وقيادة سياسات التسويق والترويج السياحي. فيما يقتضي زيادة الأثر المتوقع من التأشيرة الخليجية الموحدة تنظيم مسار سياحي خليجي موحد، يربط دول المجلس ينهجه الزوار الأجانب، ويتكامل هذا المسار مع المسارات الوطنية، لتوزيع الاستفادة بين بلدان المجلس وبين المناطق المختلفة في كل دولة خليجية.
وإذا كان قطاع السياحة على مستوى عالمي يعد القطاع الأكثر دخلاً وهيمنة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وبلغ إسهامه في هذا الناتج 7.6%؛ أي نحو 8 تريليونات دولار في عام 2022، ويلعب دورًا محوريًا في تحفيز نمو الدخل الوطني والصادرات، وجذب الاستثمارات الأجنبية كما يبرز دوره في جذب النقد الأجنبي، وتوفير فرص العمل (وفق إحصاءات 2022 وفر أكثر من 330 مليون فرصة عمل على مستوى العالم)؛ فقد أعطته دول الخليج أولوية بصفته أحد الروافد الأساسية لاقتصادها، وكرست جهودها لإنشاء بنية سياحية قوية تضم فنادق، وقرى سياحية، ومطارات، ومواقع وتدريب القوى العاملة الوطنية وإكسابها المهارات اللازمة، ودشنت كل منها استراتيجية وطنية لتنمية هذا القطاع، حقق بعضها مستهدفاته قبل الموعد المحدد، فالسعودية كانت تستهدف 100 مليون زائر في 2030، حققته في 2023، ومن ثم رفعت 2030 إلى 150 مليون زائر. ومع تنوع المواهب والمقاصد السياحية في دول الخليج، فمن المتوقع أن تؤدي التأشيرة الموحدة إلى تجاوز المستهدفات التي وضعتها الاستراتيجيات الوطنية، وسيكون لهذا دوره في جذب الاستثمارات الخليجية البينية، والاستثمارات من خارج دول المنطقة.
ويُقدر وزير السياحة السعودي أن «الرياض»، ستستثمر نحو 800 مليار دولار في العديد من المدن والواجهات والمشاريع السياحية الكبرى في الأعوام العشر القادمة، كون السياحة أحد القطاعات الاقتصادية المهمة التي أسهمت في تمكين المملكة من تحقيق مستهدفات رؤيتها 2030، مؤكدًا أن هذه الاستثمارات لن تخدمها فقط، بل سيعم أثرها كل دول المجلس، وأكد أن المنطقة مقبلة على مزيد من الاستثمارات في المشاريع السياحية الكبرى، ما يصب في تعزيز العمل السياحي الخليجي المشترك، وتفعيل المبادرات والبرامج والأنشطة التي من شأنها تعظيم الاستفادة من استقطاب السياحة الوافدة. وفي العام الماضي تمكنت السعودية من جذب نحو 13 مليار دولار من استثمارات القطاع الخاص في صناعة السياحة، وأضافت هذه الاستثمارات ما بين 150 – 200 ألف غرفة فندقية، وتستهدف المملكة رفع إيرادات السياحة إلى 85 مليار دولار في 2024، من حوالي 66 مليار دولار في 2023، فيما تستهدف جذب نحو 80 مليار دولار استثمارات سياحية بحلول 2030. على العموم، تضيف التأشيرة الخليجية الموحدة، نتائج إيجابية متعددة، سواء على قطاع السياحة، أو الدخل، أو التشغيل، أو البنية التحتية، أو الاستثمار، أو حركة الأعمال، أو التجارة البينية أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو تنويع مصادر الدخل، وغير ذلك من نتائج مباشرة وغير مباشرة، وهو ما يجعل هذه الخطوة من أهم خطوات التكامل الاقتصادي الخليجي، التي تم اتخاذها في السنوات الأخيرة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك