لم تتعرض الأمة لمثل هذا الامتحان منذ السابع من أكتوبر 2023، فالهجوم الوحشي واللاإنساني على غزة لغرض التهجير وإكمال خطوة أخرى في طريق الاحتلال الكلي والسيطرة النهائية على الدول العربية والعبث بسيادتها واستقلال قرارها، لم تتمكن الدول العربية مجتمعة من وقف العدوان على الرغم من كل ما تملكه من ثروات وتسليح؟ وهذا يطرح السؤال الذي طرحته قمة البحرين: ما المعوقات التي كان على القادة معالجتها «لخلق أمة قوية تتقدم صفوف مناصريها» (الرئيس الجزائري)،
إدراكا لذلك قدم رئيس الحكومة المغربية مقترحا بوضع «تصور استراتيجي مشترك» لتحقيق صحوة عربية تنقذ الأمة من هذا المصير الذي يكاد يكون محتوما ما لم ندرك خطورته، وقد لخص ذلك الأمين العام للأمم المتحدة بتساؤل مبطن أين هي الأمة التي سيطرت على العالم وتسيدت التقدم الثقافي والمعرفي والعلمي؟
التصور الاستراتيجي المشترك، وفق القمة، شمل التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، تحدثنا في المقالات السابقة عن الجانب الاقتصادي فيما يخص التكامل العربي وأثره على تقريب الأمة وتيسير وحدتها. في هذا المقال سوف نتناول الجانب الفكري وأثره في وضع معالجات للصعوبات والخلافات والنزاعات العربية البينية والصراعات مع الخارج.
في قمة البحرين تطرق المشاركون إلى بعض القضايا والمعوقات وقدموا مساهمات قيمة لتقوية الأمة، غير أن الإجابة عن الأسئلة الملحة يتطلب أكثر من توصيف ومساهمات شفوية، على الرغم من أهميتها؛ فالأهم أن تكون هذه المساهمات مادة لتحليل الواقع وفهم الماضي وأسباب التراجع وعوامل النجاح المرتبطة بالتنمية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان وحماية حرياته ضمن مسيرة ديمقراطية، كما يحتاج إلى النظر إلى سبل نجاح الدول الأخرى في الماضي والحاضر لكي نخرج بتقييم موضوعي غير عاطفي، فهل يمكن للجامعات العربية ومراكز الأبحاث المساهمة في وضع هذا التحليل والتصور تحت إشراف الجامعة العربية لتكون الجامعة أكثر فاعلية في المستقبل.
التصور الاستراتيجي المشترك الذي تقدمت به إحدى الدول الأعضاء يفترض وجود خيارات، على الأمة أن تحدد أهم قضاياها وأكبر معوقاتها لكي تختار أكثر المعالجات فعالية على المستوى الاستراتيجي، غير أن وضع استراتيجية عربية للنهوض بالأمة يعتريه بعض الصعاب أولها قضية التفكير الجمعي، أي ذوبان الفرد في الجماعة وإلغاء التعددية التي أقرها الدين الإسلامي، كما ورد في القرآن الكريم في أكثر من سورة الحج - 17 (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وتكررت بصيغة أخرى في سورة البقرة الآية 62 (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
كذلك نادى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعددية لدى انتقاله من مجتمع القرية (مكة المكرمة، أم القرى)، إلى المدينة المنورة وبنى عليها مجتمع التعددية الفكرية والدينية في وثيقة المدينة. كذلك رأينا في صدر الاسلام التعددية في المدارس الفقهية والعقائدية ولم يدّعِ أي منهم امتلاك الحقيقة المطلقة، بل إن الإمام الشافعي جسد هذه الروح التعددية بقوله «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». هذه التعددية والتسامح الفكري وقبول الاختلاف أنتج حضارة هيمنت على العالم وانتقلت إلى أوروبا. للأسف لم يعد هذا الفكر سائدا أو مقبولا في بعض المجتمعات العربية، لا على المستوى الديني ولا الفكري والأيديولوجي، بل إن كل فريق يرى أنه وحده على صواب والآخر بالضرورة في ضلال يوجب محاربته وعدم الاعتراف بحقه في التمسك برأيه حتى وإن كان سليما. وتم تسييس هذا الفكر الأحادي، فتحولت البيئة الثقافية والفكرية والدينية إلى جماعات وفئات وأحزاب متناحرة يصعب أن ترى أرضية مشتركة تعمل من خلالها لمصلحة عامة قومية أو وطنية، فلقد تعمق رفض الاختلاف في الخمسين سنة الأخيرة وزاد من المشاحنات والنزاعات في المنطقة.
هذا التوجه الفكري الذي يفرض الالتزام برأي الغالبية (groupthink)، يؤدي إلى الخوف من طرح الفكر المختلف، ويقود إلى الحد من القدرة على التفكير الحر المستقل الذي يؤدي إلى الابتكار والإبداع وإنتاج فكر جديد قابل للنقاش والتعديل. في عالم اليوم الذي يقاس التقدم فيه بالابتكار والريادة والإبداع، فإن محاربة التعددية وحرية الرأي هو مصدر للتخلف العلمي والضعف الاقتصادي والإنتاج المعرفي وبالتالي الضعف السياسي والعسكري.
المسألة الآخرى التي تشيع في الفكر الاستراتيجي العربي، وعلى النقيض من الفكر الجمعي، هو عدم القدرة على الاتفاق وتقديم التنازلات لصالح الجماعة، أو الصراع السياسي (Politics) داخل المجتمع أو بين الدول. هذا التفكير يؤدي إلى التصلب ويحول دون القدرة على صياغة التوافقات الفعالة والمنتجة، ما ينتج عنها صياغة توافقات غير ذات معنى، عبارات إنشائية لا تعني الكثير ولا تتقدم بالأمة ولا تنتج برنامج عمل يؤدي إلى نتائج قادرة على التغيير. النتيجة الحتمية عدم تطبيق ما اتفق عليه من قرارات وبقاء الحال من ضعف إلى أضعف. نتأمل بعد هذه القمة وما شهدته الأمة من تعدٍ على جزء عزيز عليها في فلسطين أن يتغير المزاج العام وتتصدى الدول العربية لهذه النزعة الأحادية وترفض الصراع السياسي وتتجه نحو تطوير المسارات الديمقراطية والتعددية والثراء الفكري.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك