أثناءَ مُطَالَعَتِي للصحف البحرينيةِ خلالَ احتفالاتِ عيدِ الأضحى المباركِ، لفتتْ انتباهي عدةَ مقالاتٍ تناولتْ تقليدَ «الحية بية»، وهوَ منْ التقاليدِ المميزةِ الجميلةِ في مملكةٍ البحرينْ. يتوجهَ الأطفالُ معَ أهاليهمْ إلى السواحلِ بعد صلاةِ العيدِ لإحياءِ هذهِ العادةِ القديمةِ، حيثُ ترتدي الفتياتُ الرداءَ الشعبيَ المعروفَ باسم «البخنقْ»، بينما يرتدي الأولادُ الثوبَ البحرينيَ التقليديَ الذي يشملُ الثوبُ والسديري وغطاءَ الرأسِ الذي يعرفُ باسم «القحفية»، ويرددونَ أنشودةَ «الحية بية» المشهورةَ: «حية بية.. راحت حية ويات حية... على درب الحنينية... عشيناك وغديناك وقطيناك... لا تدعين علي حلليني يا حيتي». ثمَ يلقونَ «الحية بية»، وهيَ سلةٌ صغيرةٌ مصنوعةٌ منْ سعفِ النخيلِ مزروع بداخلها الشعيرُ أوْ القمحِ، في مياه البحر.
هذا التقليدُ العتيقِ، الذي يعززُ الهويةَ الوطنيةَ البحرينيةَ ويعكسُ تمسكَ البحرينيينَ بتراثِهمْ الثقافيِ، دفعني لأفكرَ في أهميةِ ترجمةِ هذا التراثِ الفريدِ إلى لغاتٍ أخرى لنشرِ ثقافةِ وتراثِ مملكةِ البحرينْ عالميًّا.
تعتبر اللغةُ أحدَ أهمِ مكوناتِ الهويةِ الوطنيةِ. ومنْ خلالِ ترجمةِ التراثِ اللغويِ البحرينيِ، يمكنَ للأجيالِ الحاليةِ والمستقبليةِ التعرفِ على جوانبَ متعددةٍ منْ تاريخهمْ وثقافتهمْ. ستسهمُ هذهِ الترجمةِ في تعزيزِ الفخرِ بالهويةِ الوطنيةِ والانتماءِ إلى تاريخٍ غنيٍ بالتنوعِ والإبداعِ. كما تعدْ الترجمةُ وسيلةً فعالةً لنقلِ الثقافاتِ والمعارفِ بينَ الشعوبِ. وبترجمةِ التراثِ البحرينيِ إلى لغاتٍ أخرى، يمكنَ لمملكةِ البحرينِ أنْ تشاركَ قصصها ومعارفها معَ العالمِ، مما يسهمُ في تعزيزِ التفاهمِ والتبادلِ الثقافيِ بينها وبينَ دولِ العالمِ الأخرى.
بالإضافةِ إلى ذلكَ، سيسهمُ مشروعُ ترجمةِ التراثِ اللغويِ في ملكةِ البحرين في إثراءِ المكتبةِ العربيةِ والعالميةِ بمصادرَ جديدةٍ ومهمةٍ. يمكنَ للباحثينَ والطلابِ الاستفادةُ منْ هذهِ المصادرِ في دراساتهمْ وأبحاثهمْ، مما يدفعُ بعجلةِ البحثِ العلميِ نحوَ الأمامِ.
منْ الاستراتيجياتِ الفعالةِ لتنفيذِ مشروعِ ترجمةِ التراثِ اللغويِ البحرينيِ، البدءُ بترجمةِ التراثِ إلى اللغةِ الإنجليزيةِ، كونها اللغةَ الأكثرَ انتشارا في العالمِ، مما يجعلها الوسيلةَ الأفضلَ للوصولِ إلى جمهورٍ واسعٍ. بترجمةِ التراثِ البحرينيِ إلى الإنجليزيةِ، يمكنَ لمملكةِ البحرينْ أنْ تصلَ إلى أكبرِ عددٍ ممكنٍ منْ القراءِ حولَ العالمِ، حيثُ إنَ غالبيةَ الأبحاثِ والدراساتِ الأكاديميةِ تنشرُ باللغةِ الإنجليزيةِ، وبالتالي، يمكنَ أنْ تسهمَ الترجمةُ إلى الإنجليزيةِ في تعزيزِ الدراساتِ المتعلقةِ بالبحرينِ على المستوى العالميِ.
كما تعتمدُ العديدَ منْ دورِ النشرِ العالميةِ والمجلاتِ الثقافيةِ الرائدةِ اللغةِ الإنجليزيةِ، وبترجمةِ التراثِ إلى الإنجليزيةِ، يمكنَ الوصولُ إلى هذهِ المنصاتِ والنشرِ منْ خلالها، مما يزيدُ منْ انتشارهِ عالميا.
بعدُ الانتهاءِ منْ الترجمةِ الإنجليزيةِ، يمكنَ البدءُ في ترجمةِ التراثِ البحرينيِ إلى اللغاتِ الأوروبيةِ الأخرى مثلٍ الفرنسيةِ، والإسبانيةَ، والألمانيةَ، حيثُ تحتلُ هذهِ اللغاتِ مكانةً مهمةً في الأوساطِ الأكاديميةِ والثقافيةِ. وبعدُ إتمامِ الترجمةِ إلى اللغاتِ الأوروبيةِ الرئيسيةِ، يمكنَ استهدافُ اللغاتِ الآسيويةِ المهمةِ مثلٍ الصينيةِ، واليابانيةَ، والكوريةَ، حيثُ تشهدُ الدولُ الناطقةُ بهذهِ اللغاتِ نموا اقتصاديا وثقافيا كبيرا، مما يتيحُ فرصا جديدةً للترويجِ للثقافةِ البحرينيةِ.
ولتنفيذِ هذا المشروعِ الوطنيِ، يجبَ البدءُ بجمعِ جميعِ الأعمالِ الأدبيةِ والعلميةِ والتاريخيةِ المكتوبةِ باللغةِ العربيةِ، وذلكَ منْ خلالِ التعاونِ معَ الجامعاتِ والمكتباتِ ودورِ النشرِ في مملكةِ البحرينْ. وينبغي تحديدُ الأولوياتِ بناءً على أهميةِ العملِ وتأثيرهِ الثقافيِ والعلميِ، ويمكنَ تكوينُ لجنةٍ مختصةٍ منْ اللغويينَ والأدباءِ والعلماءِ والمؤرخينَ لتقييمِ الأعمالِ وتحديدِ أولوياتِ الترجمةِ.
بالإضافةِ إلى ذلكَ، يجبَ اختيارُ مترجمينَ محترفينَ لديهمْ خبرةٌ واسعةٌ ودرايةُ عميقةٌ بالتراثِ اللغويِ والثقافةِ والتاريخِ البحرينيِ، بالإضافةِ إلى فهمٍ عميقٍ للغةِ المصدرَ واللغةَ الهدفَ. ونظرا إلى أنَ هذا المشروعِ يتطلبُ دعما ماليا كبيرا، يمكنَ البحثُ عنْ تمويلِ منْ بعض الهيئات الحكوميةِ والمؤسساتِ الثقافيةِ والخيريةِ. يجبَ أيضا توفيرَ الدعمِ الإداريِ اللازمِ للمشروعِ لضمانِ سيرِ العملِ بسلاسة. وبعدُ الانتهاءِ منْ الترجمةِ، يجبَ مراجعةَ التراثِ المترجمِ بدقةِ لضمانِ دقةِ الترجمةِ وجودتها، ومنْ ثمَ، يتمَ نشرُ الأعمالِ المترجمةِ في كتبِ أوْ عبرَ منصاتٍ إلكترونيةٍ، بهدفَ تعزيزِ الثقافةِ البحرينيةِ وتوسيعِ انتشارها وجعلها متاحةً للقراءِ على مستوى العالمِ.
هذا المشروعِ سيسهمُ في إحياءِ التراثِ البحرينيِ الغنيِ والمحافظةِ عليهِ منْ الاندثارِ. وفضلاً على ذلكَ، سوفَ يسهمُ نشرَ التراثِ البحرينيِ المترجمِ في جذبِ السياحِ الذينَ يهتمونَ بالتاريخِ والثقافةِ، حيثُ إنْ الأعمالِ المترجمةِ ستكونُ بمثابةِ جسرٍ يربطُ بينَ مملكةٍ البحرينْ والعالمُ الخارجي، مما يعززُ منْ مكانةِ البحرينِ كمركزٍ ثقافيٍ مهمٍ في المنطقةِ.
ستساعدُ الترجمةُ أيضا على بناءِ جسورِ منْ التواصلِ والتفاهمِ بينَ مملكةِ البحرينْ والدولُ الأخرى، فمنْ خلالِ تبادلِ الثقافةِ والمعرفةِ، يمكن تعزيز العلاقاتِ الدوليةِ وتقديمِ البحرين كدولةٍ ذاتِ تاريخٍ عريقٍ وثقافةِ غنية.
إنَّ مشروعَ ترجمَةِ التراثِ اللُّغويِّ في مملكةِ البحرين ليسَ مجرَّدَ مبادرةٍ ثقافيَّةٍ، بل هو مشروعٌ وطنيٌّ واستراتيجيٌّ نحو تعزيزِ الهويةِ الوطنيّةِ ونشرِ الثقافةِ البحرينيّةِ على نطاقِ عالميٍّ. من خلال تنفيذِ هذا المشروعِ، يمكن لمملكةِ البحرينِ أن تؤكِّدَ مكانتَها كدولةٍ ذاتِ تاريخٍ ثقافيٍّ غني، وأن تسهمَ في إثراءِ التراثِ العالميِّ بمعارفِها وتجاربِها الفريدةِ.
لذا، أدعو كافَّةَ الهيئاتِ والمؤسَّساتِ البحرينيَّةِ من خلال هذا المنبرِ الإعلاميِّ الوطنيِّ الذي ينبضُ بحبِّه لمملكةِ البحرين، إلى التكاتفِ وتوفيرِ الدعمِ اللازمِ لهذا المشروعِ الوطنيِّ، من أجلِ تحقيقِ هذا الحلمِ الثقافيِّ الكبيرِ الذي سيعودُ بالفائدةِ على مملكةِ البحرينِ والأجيالِ القادمةِ، ويعزِّزُ من مكانتَها على خريطةِ الثقافةِ العالميّةِ.
{ أستاذ اللغويات - زميل أكاديميَّة التَّعْليم العالي البريطانيَّة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك