احتار العَلْمانيون كيف ينطقون مصطلح العَلْمانية أو يكتبونها بين من يكسر عينها، ومن يفتحها! وما زاد في بلبلة الأفكار واختلاط المفاهيم أن لكل فريق من هؤلاء حجته وبرهانه، وهم لا يكتفون بهذا، بل يحاولون ما وسعتهم المحاولة، ويجتهدون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا التلبيس على شباب الإسلام، وإيهامهم بأن العَلْمانية لا بد أن ننطقها بكسر عينها حتى نؤكد صلتها بالعلم، وما دام الإسلام يدعو إلى العلم، فمعنى هذا أن ليس بينها وبين الإسلام قطيعة، أو خصومة، وحقيقة العَلْمانية غير ذلك، وأنها دعوة إلى فصل الدين عن الدولة والانفراد بالسلطة، وكَفِّ يد الإسلام عن التدخل في شؤون الناس، وهذا قد يصدق على أي دين إلا دين الإسلام الذي جمع بين المعجزة والتشريع في كتاب واحد، يقول تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) المائدة/48.
إذًا، فالإسلام لا يترك، ولا يتنازل عن دوره القيادي لأحد، فهو الأحق بالقيادة، ورعاية مصالح الناس، وهو المأمون وحده على تحقيق الأمن والطمأنينة في حياة الناس.
لقد آن للعَلْمانيين أن ينهوا الجدل حول فتح عين العَلْمانية وكسرها، وينشغلوا بالعمل على المصالحة بين الإسلام والعَلْمانية، وأن يعترفوا للإسلام بحق القيادة والزعامة، لأنه يملك أسبابهما، والتاريخ الصادق يشهد للإسلام بذلك، ولقد أثبتت الحضارة الإسلامية من خلال الدولة الإسلامية في عهد الرسالة، وعهد الخلفاء الراشدين حيث قَدَّمَ الإسلام تجربة فريدة في سياسة الدولة ورعاية مصالح الناس.
وصحيح أن الإسلام لم يقدم نظرية متكاملة في السياسة وشؤون الحكم لكنه كذلك لم يكن بعيدًا عن الانشغال بهموم الناس، وهذه هي السياسة، ولو تأملنا الخطبة التي ألقاها سيدنا أبوبكر الصدِّيق عندما عُين خليفة للمسلمين عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال للناس: أيها الناس.. إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له.. إنه عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكومين قبل أن يأتي المفكر الفرنسي جان جاك روسو، بكتابه «العقد الاجتماعي».. إنها الفطرة السليمة، والإيمان الصادق.
إن العَلْمانيين يحاولون لَيْ عنق المفردات ليستنطقوها عنوة بما يشاؤون، وفِي هذا تعنت لا مسوغ له.
إن محاولة استنبات هذه البذرة الغريبة على ديار الإسلام تثير الكثير من الإشكالات، وتخلق نوعًا من البلبلة الفكرية لا داعي لها في ظل ظروف غير مواتية نحن في غير حاجة ملحة إليها.
قد يكون للأمم الغربية بعض العذر في تبني مثل هذه الاطروحات، وذلك لًتدخل الكنيسة في أمور لا تعنيها، ومحاولة فرض رأيها، أو رؤيتها على النظام القائم، وهذا هو السبب في حدوث الصراع بين الكنيسة، والسلطات السياسية، وأيضًا فإن الرسالات السابقة على الإسلام لم تدع إلى إنشاء دولة، أما الإسلام فقد أقرَّ منذ البداية بحاجة الناس إلى نظام يُعْنى بمصالح الناس الخاصة والعامة، ولهذا فإن غياب النص الديني في السقيفة التي اجتمع فيها الصحابة (رضي الله عنهم) كان في ذلك إشارة واضحة الدلالة على أهمية، بل ضرورة قيام دولة تحقق شروط الخلافة في الأرض التي خلق الإنسان من أجلها، قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة/30.
إذًا، فمن شروط صحة الاستخلاف في الأرض قدرة الإنسان، وكفاءته في تحقيق الغاية من خلقه، والغاية حددها الحق سبحانه وتعالى في قوله سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات/56.
وإذا أردنا فهم أي مصطلح قادم إلينا من بيئة غريبة علينا، فعلينا أن نحتكم إلى مصادر هذا المصطلح في أصوله الفلسفية، وهذا هو السبيل الأمثل إلى تحرير النزاع بين المختلفين، وحين يكون رائد المختلفين هو نشدان الحقيقة، فإنه - وكما قال الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه (الدولة في الإسلام): عندما تكون القضية مصدر تفكيرك تقودك إلى طريقها هي، وعندما تكون القضية موضع تفكيرك تقودك إلى طريق الحق.
إذًا، فالعَلْمانية ليست مشتقة من العلم، وإن حاول دعاتها الترويج لهذه الاكذوبة، بل هي مشتقة من العالم، أي الدنيا، وحين يفصلون الدين عن الحياة، ونحن هنا نتحدث عن الإسلام تحديدًا، فإن في هذا الفصل نهاية للأمة، وذهاب لريحها، وغياب لسلطانها، وهذا ما يريده أعداء الإسلام الذين ما فتئوا يفتعلون الأزمات، ويختلقون الأكاذيب والأساطير كلما رأوا نشاطًا في حركة الإسلام، ولمسوا انتشارًا للإسلام، وظهورًا للحق الذي يدعو إليه، ورأوا المتميزين من رجالات الغرب ومفكريه، وهم يتداعون في الاقبال عليه، وها هو الحق سبحانه وتعالى يؤكد ذلك في قوله سبحانه: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة/33.
إن ظهور الإسلام على جميع الأديان قضية لا تحتاج إلى برهان، فها هي مؤسساتهم البحثية، ومراكزهم العلمية تؤكد في موضوعية لا يستطيعون التشكيك فيها، بل هناك ظاهرة عجيبة لم يشهدوا لها مثيلًا في غيره من الرسالات السماوية هي: أن الإسلام كلما حاربوه، وكادوا له يزداد انتشارًا، وظهورًا، ذلك لأنه الرسالة الوحيدة التي معجزاتها حاضرة له، وفيها من التحدي ما لم يقدر على مواجهته أحد، وكثير من خصومه حاولوا التشكيك في مصدره العلوي الإلهي ففشلوا فشلًا ذريعًا، بل كثير ممن أراد بالإسلام شرًا انقلب سحره على الساحر، وبدل أن يخرج المسلمون من الإسلام دخل بسبب هؤلاء الخصوم إلى الإسلام، وصاروا دعاة له، وتحول الكثير منهم فأصبحوا سفراء للإسلام في بلدانهم من هؤلاء: رجاء جارودي، وموريس بوكاي، ومحمد أسد (ليبولد فايس)، وغيرهم كثير.
هذه هي محنة العَلْمانيين، وهذه هي الإشكالات التي يواجهونها.. إنهم يواجهون خصمًا عنيدًا يقول لمخالفيه: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم) البقرة/111. ولقد أثبت الواقع عجزهم، وفساد استدلالهم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك