العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الغرب وانقلاب السحر على الساحر

بقلم: د. نبيل العسومي

الخميس ٠٤ يوليو ٢٠٢٤ - 02:00

عندما‭ ‬قررت‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬وأغلبية‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭ ‬معاقبة‭ ‬روسيا‭ ‬الاتحادية‭ ‬اتخاذ‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الإجراءات‭ ‬الأمنية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والعسكرية‭ ‬كانت‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬تأثيرها‭ ‬الكبير‭ ‬على‭ ‬روسيا‭ ‬سوف‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تراجع‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬موقفها‭ ‬وأهدافها‭ ‬المعلنة‭ ‬عبر‭ ‬العملية‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬الخاصة‭ ‬لحماية‭ ‬منطقة‭ ‬الدونباس‭.‬

لقد‭ ‬قررت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬وبريطانيا‭ ‬حظر‭ ‬النفط‭ ‬والغاز‭ ‬الروسيين‭ ‬وتعهدت‭ ‬دول‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬بالعمل‭ ‬على‭ ‬إنهاء‭ ‬صادرات‭ ‬الغاز‭ ‬من‭ ‬روسيا‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬القادمة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬بدائل‭ ‬أخرى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬كلفة‭ ‬وأغلى‭ ‬سعرا،‭ ‬كما‭ ‬اتخذت‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬قرارات‭ ‬وإجراءات‭ ‬مالية‭ ‬خطيرة‭ ‬أهمها‭ ‬إخراج‭ ‬روسيا‭ ‬الاتحادية‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬المالي‭ ‬العالمي‭ ‬‮«‬سويفت‮»‬‭ ‬بما‭ ‬يعقد‭ ‬العمليات‭ ‬المالية‭ ‬الروسية‭ ‬وربما‭ ‬يدمرها،‭ ‬كما‭ ‬اتخذت‭ ‬إجراءات‭ ‬أخرى‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬تجميد‭ ‬الأموال‭ ‬الروسية‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬التي‭ ‬تقدر‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬300‭ ‬مليار‭ ‬دولار،‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬الروسية‭ ‬سيرجي‭ ‬لافروف‭ ‬بسرقة‭ ‬الأموال‭ ‬الروسية،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬كانت‭ ‬تقدم‭ ‬هذا‭ ‬الغاز‭ ‬بالمجان‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأموال‭ ‬هي‭ ‬حصيلة‭ ‬شراء‭ ‬الغاز‭ ‬الروسي‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬نركز‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الاقتصادي‭ ‬من‭ ‬العقوبات‭ ‬التي‭ ‬تبين‭ ‬بوضوح‭ ‬أنها‭ ‬رغم‭ ‬قساوتها‭ ‬وغير‭ ‬قانونيتها‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الجوانب،‭ ‬فإنها‭ ‬لم‭ ‬تؤثر‭ ‬بالشكل‭ ‬المتوقع‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الروسي‭.‬

لقد‭ ‬واجهت‭ ‬روسيا‭ ‬الاتحادية‭ ‬حزما‭ ‬من‭ ‬العقوبات‭ ‬الغربية،‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالجانب‭ ‬المالي‭ ‬والتكنولوجي‭ ‬والاستيراد‭ ‬والتصدير،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التقارير‭ ‬الصادرة‭ ‬ليس‭ ‬عن‭ ‬روسيا‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬الصحافة‭ ‬الغربية‭ ‬المتخصصة‭ ‬خاصة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬تأثير‭ ‬هذه‭ ‬العقوبات‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كبيرا‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الروسي‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬معيشة‭ ‬المواطن‭ ‬الروسي،‭ ‬وذلك‭ ‬لنجاح‭ ‬التعامل‭ ‬الروسي‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬العقوبات‭ ‬وتوفير‭ ‬البدائل‭ ‬بالسرعة‭ ‬المطلوبة‭ ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬قد‭ ‬باعت‭ ‬خلال‭ ‬الشهرين‭ ‬الماضيين‭ ‬من‭ ‬الأزمة‭ ‬كميات‭ ‬من‭ ‬البترول‭ ‬والغاز‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬46‭ ‬مليار‭ ‬دولار،‭ ‬كما‭ ‬أكدت‭ ‬المصادر‭ ‬الإعلامية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬الروسية،‭ ‬فقد‭ ‬تبين‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬واجهت‭ ‬معضلة‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الأصعدة،‭ ‬فمن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬التضخم‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬تجاوزت‭ ‬7.5%‭ ‬وهي‭ ‬نسبة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النسبة‭ ‬بلغت‭ ‬8%‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬وهو‭ ‬مؤشر‭ ‬خطير‭ ‬على‭ ‬ارتفاع‭ ‬الأسعار‭ ‬وتدهور‭ ‬القدرة‭ ‬الشرائية‭ ‬للمواطن‭ ‬الأمريكي‭ ‬والمواطن‭ ‬الأوروبي،‭ ‬فلأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العقوبات‭ ‬يتضرر‭ ‬فيها‭ ‬الذي‭ ‬يعاقب‭ ‬المعاقبين‭ ‬وهي‭ ‬مفارقة‭ ‬غريبة،‭ ‬تفسيرها‭ ‬الوحيد‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬قد‭ ‬نجحت‭ ‬فعلا‭ ‬في‭ ‬استيعاب‭ ‬هذه‭ ‬العقوبات‭ ‬وتحويلها‭ ‬من‭ ‬مخاطر‭ ‬تهدد‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الروسي‭ ‬إلى‭ ‬فرصة‭ ‬جديدة‭ ‬لتنمية‭ ‬هذا‭ ‬الاقتصاد‭ ‬وتوفير‭ ‬البدائل‭ ‬وتقليل‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬وفتح‭ ‬باب‭ ‬الاستثمار‭ ‬الداخلي‭ ‬وتنمية‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬والاستثمار‭ ‬فيه،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬تعزيز‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬الشركاء‭ ‬الرئيسيين،‭ ‬وخاصة‭ ‬جمهورية‭ ‬الصين‭ ‬الشعبية‭ ‬وجمهورية‭ ‬الهند‭ ‬والبرازيل‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الإفريقية‭ ‬والعربية‭ ‬لإيجاد‭ ‬البدائل‭ ‬في‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬والخروج‭ ‬تدريجيا‭ ‬عن‭ ‬الدولار‭ ‬في‭ ‬المعاملات‭ ‬المالية‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التعامل‭ ‬في‭ ‬البيع‭ ‬والشراء‭ ‬بالعملة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالدول‭ ‬مثل‭ ‬اليوان‭ ‬الصيني‭ ‬والروبية‭ ‬الهندية،‭ ‬وهذا‭ ‬الإجراء‭ ‬قد‭ ‬شجع‭ ‬بلدانا‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬إمكانية‭ ‬التعامل‭ ‬بغير‭ ‬الدولار‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬البيع‭ ‬والشراء‭ ‬منها‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية‭ ‬الشقيقة،‭ ‬كما‭ ‬نجحت‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬قيمة‭ ‬الروبل‭ ‬ضمن‭ ‬العملات‭ ‬الدولية‭ ‬مقارنة‭ ‬بالدولار،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬سعر‭ ‬الدولار‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأزمة‭ ‬140‭ ‬روبل‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أصبح‭ ‬الآن‭ ‬‮٦٨‬‭ ‬روبلا،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬ترجمته‭ ‬المالية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بأن‭ ‬الإجراءات‭ ‬الروسية‭ ‬المعتمدة‭ ‬قد‭ ‬قلبت‭ ‬الأهداف‭ ‬الغربية‭ ‬رأسا‭ ‬على‭ ‬عقب‭.‬

لقد‭ ‬أعلنت‭ ‬وزارة‭ ‬المالية‭ ‬الروسية‭ ‬أنها‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬سداد‭ ‬ديون‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬العالمية‭ ‬تقدر‭ ‬بـ650‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬دفعتها‭ ‬بالروبل‭ ‬بعدما‭ ‬رفضت‭ ‬البنوك‭ ‬الغربية‭ ‬تسديدها‭ ‬بالدولار،‭ ‬وخلال‭ ‬الأسابيع‭ ‬الماضية‭ ‬تمكنت‭ ‬روسيا‭ ‬بفضل‭ ‬تخطيطها‭ ‬الجيد‭ ‬من‭ ‬تجنب‭ ‬خطر‭ ‬التخلف‭ ‬عن‭ ‬سداد‭ ‬الديون‭.‬

وفي‭ ‬الخلاصة،‭ ‬فإنه‭ ‬بالإمكان‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬السحر‭ ‬انقلب‭ ‬على‭ ‬الساحر‭ ‬فالدول‭ ‬الغربية‭ ‬تبدو‭ ‬الأكثر‭ ‬تأثرا‭ ‬بهذه‭ ‬العقوبات‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬موسكو،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أبدا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العقوبات‭ ‬الشرسة‭ ‬ليست‭ ‬مؤلمة‭ ‬لروسيا‭ ‬ولم‭ ‬تؤثر‭ ‬عليها‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬لم‭ ‬تحقق‭ ‬الأهداف‭ ‬الغربية‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العقوبات‭ ‬وهي‭ ‬ضرب‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الروسي‭ ‬وتدميره‭ ‬والتسبب‭ ‬في‭ ‬فوضى‭ ‬عارمة‭ ‬وهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬جهل‭ ‬الغرب‭ ‬بحقيقة‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬روسيا،‭ ‬فجحم‭ ‬الموارد‭ ‬والإمكانات‭ ‬التي‭ ‬تتوافر‭ ‬لدى‭ ‬موسكو‭ ‬تمكنها‭ ‬من‭ ‬الصمود‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭ ‬وليس‭ ‬عدة‭ ‬أشهر‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬الغرب‭ ‬يعتقد،‭ ‬فلو‭ ‬كانت‭ ‬العقوبات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬تجدي‭ ‬لكانت‭ ‬نفعت‭ ‬مع‭ ‬كوريا‭ ‬الشمالية‭ ‬ومع‭ ‬إيران‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭  ‬اللتين‭ ‬تواجهان‭ ‬عقوبات‭ ‬باستمرار‭ ‬لم‭ ‬تمنعهما‭ ‬قط‭ ‬من‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬مخططاتهما‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا