الإمام ابن الجزري مجدد ومحقق علم القراءات، ورائد نهضة علومها في زمانه ومن بعده، سند المقرئين، وشيخ شيوخ الإقراء، وعمدة أهل الأداء، وصاحب التصانيف التي لم يسبق مثلها، ولم ينسج على منوالها، بلغ الذروة في علوم التجويد وفنون القراءات، حتى صار فيها الإمام الذي لا يدرك، ولا يشق غباره.
اتجهت نفسه الكبيرة إلى علوم القراءات فتلقاها عن جهابذة عصره، وأساطين وقته، من علماء الشام ومصر والحجاز، ولم يكن الإمام ابن الجزري رحمه الله عالمًا في التجويد والقراءات فحسب، بل كان عالمًا في شتى العلوم من تفسير وحديث وفقه وأصول وتوحيد وبلاغة ونحو وصرف ولغة وغيرها، غير أن كثرة إسهاماته في علم القراءات وقيمة جهوده فيه جعلته يبرز في سماء القراء لا في سماء غيرهم وكيف لا وهو الذي تفرد بعلو الإسناد ومعرفة الرواة المتقدمين والمتأخرين من القراء، وهو الذي آلت إليه رئاسة علم القراءات في زمانه.
لقد تأثر ابن الجزري كثيـرا بأغلب شيوخ القراءات غير أن تأثره بالإمامين أبي عمرو الداني والشاطبي كان أكثر، لذا فقد عمل على أن تكون جهوده في إتمام وإكمال أعمالهما، وكل من جاء بعد ابن الجزري من أصحاب القراءات كانوا متأثرين به آراء ومنهجا وكيف لا؟ ومعظم أسانيد القراءات لا تعلو ـ من بعده ـ إلا إذا أسندت من طريقه.
اسمه ومولده: هو شيخُ القرَّاء العلاَّمة أبو الخير محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجَزَرِيُّ الشهير بابن الجَزَرِيِّ نسبة إلى جزيرة ابن عمر؛ وتسمَّى جزيرة «بُوْطَان» حاليًّا، وتقع في منطقة جنوب شرق الأناضول بتركيا، قربَ حدود العراق وسوريا. وُلد رحمه الله بدِمشق في ليلةِ السبت الخامس والعشرين من شهرِ رمضان سنة 751هــ، الموافق 30 نوفمبر 1350م.
كان أبوه تاجرً فذهب إلى الحجِّ، وفي أثناءِ حجَّته شرب مِن ماء زمزم بنيَّة أن يُرزَق ولدًا صالحًا عالمًا، ثم رجع إلى الشامِ، فما إن جاء رمضان إلاَّ وقد وُلد ابنُه محمد بعد صلاة التراويح.
قال ابن الجزري في كتابه: «جامع الأسانيد» وهو يُعدِّد مشايخه، فذكر أولهم والده محمد الجزري (725-785 هـ) رحمهم الله تعالى، قال: (أخبرني أنه ولد سنة (725هـ)، وحج سنة (748هـ)، وقال لي: شربت ماء زمزم لأن يرزقني الله ولداً ذكراً يكون من أهل القرآن، وتزوجت بوالدتك سنة (750 هـ)، فولِدْتَ لي في 25 رمضان سنة (751 هـ) .
نشأته وحياته: نشأَ رحمه الله في دمشق، وأتمَّ حفظَ القرآن الكريم في الثالثة عشرة من عمرِه، وصلَّى به وهو ابن أربعة عشر عاما، وأفرد القراءات وعمره خمس عشرة سنة، وجمعَها وهو ابن سبعة عشر عامًا.
رحل إلى بلدان كثيرة لتعلم القراءات وتعليمها والتقَى بالأئمَّة القرَّاء، وسمع الحديثَ، وأخذ الفقهَ، وأجازَه بالإفتاء أبو الفداء إسماعيل بن كثير وغيرُه. ورحلَ إلى مصر تكرارًا، وحج مرارا ورحل إلى البصرة وبلاد ما وراء النهر وسمرقند وخراسان وأصفهان وشيراز.
طلبه للعلم وبعض أبرز شيوخه: نشأ ابن الجزري وترعرع بدمشق في بيت يقدِّر العلم، ويحب أهله. وقد رأينا أن الله عز وجل حقق لوالده أمنيته، واستجاب دعاءه، فرزقه ولداً ذكراً صار بحق إمام أهل القرآن. وفي بيت هذا الأب الصالح، وفي هذه الأجواء الإيمانية الكريمة نشأ الإمام ابن الجزري، وارتبطت حياته من أولها بالقرآن الكريم، فحفظ القرآن سنة (764هـ) وهو ابن ثلاثة عشر عاماً، وصلى به في السنة التي تليها، وهو ابن أربعة عشر.
وتلقى علم القراءات على يد عدد من أكابر علماء الشام آنذاك، منهم: الشيخ عبدالوهاب بن يوسف، والشيخ أحمد بن إبراهيم بن الطحان، والشيخ أحمد بن رجب بن الحسن في سنة (766هـ و767هـ)، والشيخ إبراهيم الحموي، والشيخ ابن اللبان في سنة (768هـ).
وبعد أن أخذ ما عند علماء بلده من العلم، بدأ يطوف البلدان بهمة لا تعرف الملل ولا الكلل، وكان لا يجد أنسه وراحته إلا في الازدياد من الشيوخ، واكتساب ما عندهم من العلم.
فرحل إلى الحجاز وله من العمر سبع عشرة سنة، وفي المدينة الشريفة قرأ على إمام المدينة وخطيبها الشيخ أبي عبدالله محمد بن صالح بن إسماعيل، في شهر ذي القعدة سنة (768هـ) بين الروضة والمنبر.
ثم رحل إلى مصر ثلاث رحلات، وذلك في سنة (769هـ و771هـ و778هـ) فالتقى فيها بكبار علماء القراءات، كأبي بكر عبدالله بن الجندي، وأبي عبدالله محمد بن الصائغ، وأبي محمد عبدالرحمن بن أحمد بن علي ابن البغدادي، كما سمع الحديث من بعض العلماء، وأخذ الفقه عن الإسنوي وغيره، وقرأ الأصول والمعاني والبيان على يد ضياء الدين سعد الله القزويني، ورحل إلى الإسكندرية فقرأ القراءات وسمع الحديث من بعض شيوخها. وقد أجازه وأذن له بالإفتاء شيخ الإسلام ابن كثير سنة (774هـ)، والشيخ ضياء الدين سنة (778هـ)، وشيخ الإسلام البلقيني سنة (785هـ).
ويلاحظ من خلال ترجمته لأبنائه أنه رحل بهم أكثر من مرة ليقرؤوا على يد علماء القراءات، وليدركوا من بقي من مشايخها المسندين الكبار، وينالوا بركة مجالس العلم المحفوفة بالملائكة. وكان الإمام ابن الجزري-رحمه الله تعالى- حريصاً كل الحرص على توثيق صلته بالقرآن الكريم بداية، وبالعلوم والفنون الإسلامية المختلفة بعد ذلك.
مؤلفاته: ألَّف الإمام ابن الجزري مؤلفات عديدة بلغت نحوًا من ثمانين كتابًا، أقبل عليها العلماء وتناقلوها بين البلدان، وأكثر كتبه في القراءات نظمًا وشرحًا، واختصارًا وتحقيقًا، ومنها في التراجم، والطبقات، وتظهر قيمة مؤلفاته في قيمة موارده وكثرتها وتنوعها ودقة التوثيق منها
ومن أبرز مؤلفاته:
1 - النشر في القراءات العشر، مطبوع في مجلدين.
2- طيبة النشر في القراءات العشر، منظومة ألفية، مطبوعة ومتداولة.
3 - الدرة المضية في القراءات الثلاث، منظومة في 241 بيتًا، مطبوعة ومتداولة.
4- منجد المقرئين، رسالة تتعلق بأقسام القراءات وبيان تواترها وطبقات القراء، مهمة للغاية، طبعت بتحقيق د. عبد الحي الفرماوي، وقد كانت مطبوعة قبل ذلك بدون تحقيق.
5 - (متن الجزرية) المقدمة فيما على القارئ أن يعلمه، أشهر منظومة في التجويد، مطبوعة متداولة، وعليها شروح عديدة، من أشهرها: شرح ملا علي القارئ، وشرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.
6- غاية النهاية في طبقات القراء، أوسع كتاب في طبقات القراء، مطبوع في مجلدين.
وفاته :بعد حياة خصبة مباركة، وعمر يزيد على ثمانين سنة، أسلم الإمام شمس الدين ابن الجزري الروح إلى باريها، ضحوة الجمعة لخمس خلون من ربيع الأول سنة (833هـ)، بمدينة «شيراز» ودفن بمدرسته «دار القرآن» التي أنشأها هناك.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك