للنصر والهزيمة في حياة الأمم والشعوب سنن وقوانين لا تتبدل ولا تتخلف وفي هذا المبحث إشارة إلى بعضها في ضوء معركة طوفان الأقصى على النحو الآتي:
ورد لفظ النصر ومشتقّاته مائة وثماني وخمسين مرّة في سبع وأربعين سورة، منها إحدى وثلاثون سورة مكّيّة، وستّ عشرة سورة مدنيّة، وكثر ذكر النصر وتعدّدت صيغه حتّى سمّيت سورة في القرآن بسورة النصر يدلّ على أهمّيّته كقانون وسُنَّة، وضرورة الاحتفاء به لما يحمله من بشرى للمؤمنين وشفاء لما في صدورهم وذهاب لغيظ قلوبهم، وطمأنة لنفوسهم، قال سبحانه: «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (الأنفال: 10)، وقوله: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (الأنفال: 26)، وقوله: «وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين» (الأنفال:62)، وقوله: «وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (الأنفال:40) وغيرها من الآيات كثير.
كشفت الآيات عن سُنَّة الله في نصر عباده المؤمنين وتأييده للمجاهدين على أعدائه الكافرين، وسنن الله مطّردة، فمع وجوب الأخذ بالأسباب وإعداد القوّة الممكنة من الوسائل المادّيّة والمعنويّة والتعبئة الروحيّة؛ لتحقيق النصر، فالأسباب الظاهرة ما هي إلّا ابتلاء من الله لعباده واختباره لهم؛ ليعملوا بمقتضى التكليف، ويلتزموا بالسنن الإلهيّة التي تربط الأسباب بمسبّباتها، ويوقنوا بأنّ الأسباب لا تترتّب عليها نتائجها إلّا بإذن الله، وأنّ الأمر كلّه بيد الله وحده، فلا يحدث في ملكه إلّا ما أراد، ولحكمة يعلمها الله؛ ليستقرّ في أعماق قلب المؤمن أنّ النصر بيد الله، يمنحه من يشاء في الوقت الذي يشاء، فهو وحده الناصر، وأنّ الوسائل مهما كانت كثيرة ووفيرة، فلا تعدو أن تكون ستارًا لقدر الله، فالله هو الذي يأذن بإعمال الأسباب وترتّب النتائج، فقال سبحانه: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (الأنفال: 10) والتعبير في الآية من أقوى أساليب الحصر وهو النفي بـ(ما) المتبوع بالاستثناء بـ(إلّا)، وهو يفيد هنا حصر النصر في الله وحده، فالنّصر يتنزّل بإذنِه سبحانه وحده، لا بعدد ولا عدّة حتّى يتعلّق قلب المؤمن بالله وحده، ويستشعر طلاقة القدرة الربّانيّة وفاعليّتها الكاملة في الكون، وأنّ الأسباب لا تفعل بذاتها، وهذا يحفظ على المسلم عقيدته وإيمانه، ويبصّره بحقيقة السُّنن الإلهيّة التي تحكم حركة الحياة.
وإذا تخلّفت الأسباب أو ضعفت، فالله يمنحها مسبباتها، ويرتّب عليها نتائجها امتنانًا منه على من يشاء من عباده، فينصر الضعفاء على الأقوياء، والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض سننه الثابتة،(58) فالله أيّد المسلمين وساعدهم على بلوغ الهدف في معركة بدر، وأنزل ملائكته تقاتل معهم، وتثبّت أقدامهم، «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» (الأنفال: 9)، وغشّاهم النعاس ليهدئ روعهم، ويذهب خوفهم، وأغاثهم بالمطر؛ ليطهّرهم من رجز الشيطان، ويثبّت الأرض تحت أقدامهم، وأفاض على نفوسهم بالسّكينة، وهذا المدد من عنده ما هو إلّا وسيلة للبشرى وطمأنة القلوب بوعده بالنّصر، «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» (الأنفال: 10)، فسخّر الله السنن الكونيّة لنصرة عباده، وأنزل جنوده؛ لتثبيت المؤمنين، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وضرب رقابهم؛ وأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، ولم تغنِ عنهم كثرتهم العدديّة وقوّتهم العسكريّة، وهزموا شرّ هزيمة بتدبير الله للمعركة في قتل أعدائهم والرمي عنهم «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى» (الأنفال: 17)، وخذل الله الكافرين، وأوهن كيدهم، وأضعف تدبيرهم، «ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ» (الأنفال: 18)، فالذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله، أو يعجزوا عباده المؤمنين، والله معهم وناصرهم «وَلاَ تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونْ» (الأنفال 60) فالله يتولّى الصالحين بالنّصرة والتأييد، ويخذل من يناوئهم من الكافرين «ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ» (محمد: 11) فلا تفكّروا في ولاية أحد، ولا تطلبوا النصرة من غير الله، فهو القادر على نصركم وهو خير ناصر ومعين، «بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين» (آل عمران: 150)، ولن يقوى أحد على هزيمتكم ما دمتم في ولاية الله، وتقاتلون معتمدين على نصرة الله، فهو نعم المولى ونعم النصير.
والآيات الواردة في سورة الأنفال للتعقيب على غزوة بدر تقرّر دستور النصر والهزيمة، وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة؛ الأسباب الحقيقيّة لا الأسباب الظاهرة المادّية، وغزوة بدر بأحداثها وتفاصيلها تشكّل كتابًا مفتوحًا تقرؤه الأجيال في كلّ زمان وفي كلّ مكان، لا تتبدّل دلالتها ولا تتغير طبيعتها، فهي آية من آيات اللّه، وسنّة من سننه الجارية في خلقه، ما دامت السماوات والأرض.
وسُنَّة النصر من الله ذات البعد العقديّ، تحرّر المسلم من الارتهان للقوى الأرضيّة، والتعلّق بالأسباب المادّيّة الظاهرة، وتحرّره من ربقة الاستسلام لواقع الضعف، أو القبول بالذّلّ والتبعيّة، أو الانهزام أمام قوى البغي؛ لكثرة عددها وقوّة عتادها، وتربطه بالقوّة العظمى التي لا تهزم، والإرادة المطلقة التي لا تقاوم، والقدرة التي لا يصمد أمامها شيء؛ ليطلب العون والمدد منها، ويستجلب النصر من الله وحده، «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» (آل عمران: 160).
كما أنّها تصحّح التصوّر للحياة، والنظر للقوانين الكونيّة، والأسباب المادّيّة، وكأنّها تعمل مستقلّة بذاتها، أو منفصلة عن إرادة الله، فيتعلّق القلب بالوسائل والأدوات، ويغفل عن الفاعل الحقيقيّ وهو الله، فالكثرة العدديّة والقوّة المادّيّة مؤثّرة في مسار المعركة، وهو جزء مهمّ من مفهوم القوّة، لكنّها لا تحسم نتيجة المعركة لصالح الأقوياء، فهي غير فاعلة بذاتها، فالقوّة المعنويّة، والعناية الربّانيّة، التي تكون بها القوّة الروحانّيّة، أحقّ بالنّصر من القوّة المادّيّة.
وقد تجلّت سُنَّة النصر للمؤمنين في معركة طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر 2023م، حيث أثخنت المقاومة في صفوف العدوّ قتلًا وأسرًا، وأسقطت منظومته الأمنيّة وهيبته العسكريّة، وأذاقتهم مرارة الهزيمة، ولم يستطع العدو بكل قوته وترسانته العسكرية وجبروته القضاء على المقاومة وتفكيك قواها، أو الوصول إلى قادة المقاومة، وعجز حتى اللحظة في تحرير أسراه الذين في قبضة المقاومة من خلال الآلة العسكرية، وهو بالمناسبة أكثر ملف ضاغط على عصب حكومة الاحتلال الإسرائيلي وحتى على الادارة الامريكية التي أرسلت فرقة دلتا المتخصصة بتحرير الرهائن والأسرى دون حدوث أي فارق يُذكر.
وهذا النصر الاستراتيجي للمقاومة يتمثل في الاحتفاظ بقوتها وقدرتها على تهديد العدو، وتثبيت وضعيتها السياسية وشرعيتها وإفشال العدو ومخططاته، وقدرتها على خوض معارك المدن والشوارع باقتدار وإبداع، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة ومكانتها التي تستحقها في قلوب الأمة وضميرها، ومقدمة القضايا التي تستحق الانتصار لها والتضحية في سبيلها، وأثبتت إمكانية هزيمة هذا العدو، وأن التحرير ممكن، والنصر عليهم ليس مستحيلا.
إن المعركة الطوفان هي بداية الطريق نحو التحرير الذي تلوح بشائره في الآفاق، ومقدّمة الزحف نحو تطهير المسجد الأقصى من دنس الصهاينة، فوعد الله قائم وسنّته ماضية، ونصره أكيد لعباده المؤمنين، وهزيمته لأعدائه من المجرمين.
وفي الختام: إنّ معركة طوفان الأقصى قد أضاءت فجرًا جديدًا، وفتحت آفاقًا بعيدة لمستقبل الأمّة، وبدّدت القتام الذي يحجب مستقبل التحرّر، ووضّحت الطريق نحو استعادة المسجد الأقصى.
بعد هذه القراءة لمعركة الطوفان في ضوء نماذج من السنن الإلهيّة نأمل من الله أن تكون نتيجة هذه المعركة إيذانًا ببدء معركة تحرير فلسطين ونهاية المشروع الصهيوني وتتبير علوّه في الأرض، وتطهير المسجد الأقصى من رجس المحتلين، ومن أهم ما علينا الوعي به ما يأتي:
1- ضرورة الوعي بالسنن الإلهيّة في الصراع بين الحق والباطل، فهي تبشّر بقرب زوال هذا الكيان المحتلّ، وتبعث الأمل في الأجيال بأنّ النصر قريب، وهزيمة العدوّ ممكنة، برغم قلّة العتاد والزّاد، فالنّصر منحة إلهيّة، وسنّة حتميّة لمن أخذ بمعاييرها، وسلك دروبها، وأخذ بأسبابها متوكّلًا على الله، معتمدًا عليه، متسلّحًا بالصبر والثبات، ملتجئًا إلى معيّته، فهو ملاذ المجاهدين، وحصن المدافعين عن حرمة الأوطان والدين، لا يتركهم وحدهم دون ظهير أو نصير، يمكر لهم كما يبطل مكر عدوّهم وهو خير الماكرين، ولن تغني عنهم قوّتهم ولا جيوشهم، وستبوء جهودهم بالفشل والهزيمة فريقًا تقتلون وتأسرون فريقًا.
2-إنّ اكتشاف السنن الإلهيّة، وكيفيّة التعامل معها وتسخيرها، وقراءة الأحداث في ضوئها، ضرورة ملحة، وواجب دينيّ، خاصّة سنن الصّراع بين الحقّ والباطل، وكيفيّة عملها في المجتمعات كفيل بحسم مادّة الشرّ، وتقليم أظافر الباطل.
3- كل الأمم والمجتمعات عبر تاريخ البشرية الطويل وما جرى فيها من تحولات وتغييرات إيجابية كان لأخذها بسنن النهوض الحضاري، وما تعرضت لهم من سقوط وانهيار كان بسبب غفلتها وسيرها عكس السنن.
4- ضرورة حشد الطاقات والإمكانات المادية لمواصلة تطوير أداء المقاومة ومراكمة القوة والخبرة العسكرية؛ لمدافعة مشروع العدو الصهيوني، وأن واجب الإعداد والإمداد يقع على عاتق الأمة بأسرها، ولا يعفى منه إلا العاجز.
* داعية إسلامي من فلسطين
وأستاذ في أصول الفقه
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك