أهدتني السّيّدة الأستاذة الصَّحَفِيّة سلوى يُوسُف المُؤيّد، مشكورةً، كتاب والدتها الرّاحلة ( 1) الموسوم بـ«عائشة أحمد المُؤيّد: بنت البيت العود»، ولا يمثل هذا الكتاب النّفيس سيرة ذاتيّة للمؤلّفة فحسب، وإنّما يُقدّم نموذجًا آخر لشريك حياتها ابن عمّها يُوسُف، والتّحديات، والمحن التي كابدها في مسيرته التّجاريّة (2)، وكيف تخطّاها، كما يختزل تاريخ مجتمع البحرين، الذي عايشته المؤلّفة -رحمها الله- بكلّ أطيافه، وتجربة عائلة بحرينية بداية من عام 1265هـ/1849م.
والكتاب هو مذكرات شخصيّة للسّيّدة المرحومة عائشة أحمد المؤيّد، كتبتها بأسلوبٍ سهلٍ، وعَفَوِيّ وسَرْدي، بعيداً عن التّكلّف، فأظهرَتْ بعض الأحداث، والوقائع خلال تلك الفترة التّاريخيّة من القرن الماضي؛ لذلك وددتُ أنْ أُشركَ معي القرّاء الكرام في الكتاب، مطالعة له، وتنويهًا بقيمته، تعميمًا للفائدة.
لقد جاء في تمهيده بقلم ابنتها السّيّدة سلوى «... أمّي عائشة في حياتنا كالشّجرة السّنديانة (3 ) تظلل كلّ مَنْ حولها بحبّها وحنانها وروحها الطيبة المتواضعة المتدينة المتفتحة فكريًا، المحبّة لجميع الأديان والطبقات... أبناؤها، وأحفادها، وأبناء أحفادها يرونها مصدرًا للأمن، والدّفء، والحُبّ، الذي لا يعرف حدودًا، يلتفون حولها بقلوبهم المحبّة، والدّاعية لها بطول العمر...».
كتاب ينفتح على تاريخ مرحلة حياتيّة عاشتها صاحبة السّيرة، وعوالم وجدانية دفينة، ومشاعر تجاه زوجها، وأبنائها، وأحفادها، وأفراد أسرتها كافة.
يقع الكتاب في 277 صفحة من القطع الكبير، كانت طبعته الأولى في 2017، وطبعته الثانية 2021، من إعداد وإشراف الأستاذ علي صالح، ويحتوي على سبعة أبواب تنوّعت عناوينها؛ هي: الأوّل: بنت البيت العود، الثاني: مرحلة الشّباب، الثالث: مجتمع البحرين المعرفة والمعايشة، الرّابع: في قفص الزّوجيّة، الخامس: أكثر من شريكة حياة، السّادس: صفات وتجارب، السّابع: المساهمات الإنسانيّة والاجتماعيّة، ويتضمن الكثير من الصّور القديمة باللونين الأبيض والأسود على درجة كبيرة من الوضوح، وبعض الصّور الملوّنة بالإضافة إلى رسومات ولوحات فنيّة بريشة المُؤلّفة، وشجرتي العائلة الكبيرة، والصّغيرة.
تستعرض المرحومة عائشة المُؤيّد في كتابها بأسلوب شائق تجربتها الشّخصيّة مِنْ خلال المحطّات التي عاشتهَا؛ إذ تصطحبُ القارئ في كلّ محطّة يمرُّ بها على مراحل حياتها المختلفة؛ فيراها طفلة صغيرة بالبيت العود في فريق الفاضل؛ وهو الحيّ الذي ترعرعَتْ فيه وعرفته؛ حيث وُلِدت، ثم تعليمها قراءة القرآن الكريم على يد مطوعة تدعى صفيّة أُمّ مُحمّد باقر، وإدخالها مدرسة الإرسالية الأمريكية صيفًا لمدة أربعة أشهر، وإخراجها لاحقًا من المدرسة خوفا من التّنصير، ثُمّ تولّي أَخيها مُؤيّد تعليمها مع أَختها لطيفة بالمنزل القراءة، والكتابة، والحساب، ومبادئ اللغة الإنجليزية...، ثُمّ اهتمامها بأوضاع مجتمع البحرين، والتعرّف إلى العائلات، وأحوالها، والتّجاوب مع أَفراحها وأَتراحها...، ثُمّ زواجها من ابن عمّها يُوسُف بحكم العادات والتقاليد آنذاك: «أنّ البنت لابن عمّها..»
يُواكبُ الكتابُ مسيرة المؤلّفة عائشة المؤيّد -رحمها الله-، وقد تفتحت مداركها للعمل الاجتماعي، فانخرطت بكلّ مشاعرها ووجدانها في العمل الخيري والإنساني ابتداءً من عام 1953، عند تأسيس أوّل تجمع من نساء البحرين، الذي أطلق عليه «نادي السيدات»، برئاسة زوجة المعتمد البريطاني آنذاك، ثم تأسيس أوّل جمعية نسائية في البحرين والخليج العربي، هي «جمعية نهضة فتاة البحرين» بالعام 1955م ، فيراها القارئ عضوًا فاعلًا مُؤسِسًا في الجمعيّة، وركنًا من أركان مجلس إدارتها لأجل رفع مستوى المرأة الثّقافي، والتّعليمي، والاجتماعي، وتشجيعها على المساهمة الإيجابيّة في عملية التنمية.
كما تعرض المؤلّفة في كتابها الصّراعات النّفسيّة التي عاشتها بين كونها شابة يافعة، تحبّ المرح وأن تكون حرّة، وطليقة تطير كالفراشة، «.. وكيف ضيّق عليها الخناق فلا خروج من المنزل إلاّ فيما ندر، ولا اختلاط بالشّباب، واذا ما رغبت البنت مخالطة ومجالسة النساء الأمهات والجدات اللواتي يجتمعن في فناء البيت مع زائراتهنّ من نساء الحيّ يتعرضن للطرد والإبعاد...»، كما تصف في كتابها أكثر الأوقات التي شعرَتْ فيها بالألم عندما شبّ حريق بمخازن محلّات زوجها، الذي كبّدته خسائر مالية كبيرة، وكذلك عند فقدان ابنها مُحمّد في عطلة عائلية صيف 1972م، بطعنة سكين من أحد الشّباب أثناء شجار حدث في لبنان، مما أدّى إلى وفاته، وكيف كان وقع الخبر عليها، وتصفُ شعورها، وهي أمٌّ، وكيف اعتصر قلبها ألمًا، وأصيبت بصدمة الأمّ التي فقدت عزيزًا، وكان فراقه صعبًا عليها، وعلى والده.
تُعدُّ هذه الذّكرياتُ والحقائقُ التي سردتها المرحومة الكاتبة في ثنايا الكتاب شَاهِدًا على العصر، ومرجعًا أساسيًا مُهمًّا لا غنى عنه لكلّ باحث بحريني أو مهتم بتاريخ البحرين المعاصر ولا سيما في القرن العشرين؛ إذ جمع بين التّاريخ، والتّجارة، والطّب الشّعبيّ(4)، والفن، والعلم، والعمل التّطوّعي الخيري، وذكريات من الزّمان الماضي.
في الحقيقة وجدْتُ فيه المتعة، والفائدة، وتركَ في نفسي أَثرًا طيّبًا، وأنا أقلّبُ صفحاته، فهو كتابٌ لطيفٌ فيه الكثير من المعلومات التاريخيّة، التي صِيغتْ بعبارات بسيطة دالة على المعنى المقصود، وقد أحسنت المؤلِّفة عرضها بمساعدة مُعِدّ الكتاب الأستاذ علي صالح بأسلوب جذّاب وواضح، وسلس. فشكرًا لكِ أستاذة سلوى؛ إذ أَسْعَدني إهداؤكِ الجميل، وسرّني جدًّا، ومعذرةً عن أيِّ تقصيرِ أو لفظةٍ ضلّت بي عن الهدف النّبيل فيما قصدتُهُ وكتبْتُهُ.
كاتب وناقد بحريني
1 - ولدت الرّاحلة في عام 1926، لأب هو أحمد إبراهيم المؤيد، وأُمّ هي مريم الصّحاف - وهي العائلة التي قضى معظم أفرادها حين انتشر مرض الطاعون في البحرين مطلع القرن الماضي،[ 1906-1907- ] ، كانت عائشة البنت الصّغرى في أسرتها؛ حيث الأخت الكبرى لطيفة ثم أخيها مؤيّد -الذي كان له الفضل بتعليمها تعويضًا عن فرص التعليم الرسمي، وتوفيت -رحمها الله- يوم الجمعة الموافق فيه 16 فبراير 2024، عن عمر ناهز 98 عامًا.
2 -تجدر الإشارة إلى أنّ الأستاذة سلوى أصدرت كتابًا عام 1989م، عنوانه: “ إصرار على النجاح” تناولت من خلاله تاريخ حياة والدها «يوسف خليل المؤيد» كونه أحد رجال الأعمال، ورائدًا من رواد الاقتصاد الحديث في البحرين “... حيث بدأ عمله التجاري في عام 1940م، بمبلغ صغير قام بجمعه بنفسه، وأصبحت شركته اليوم مجموعة شركات تتناول عدّة قطاعات مهمّة في البحرين... وتُعدّ اليوم مجموعة يوسف خليل المؤيد وأولاده من كبرى الشركات البحرينية، التي نبعت من شخص واحد هو الأب.. لكنّ أبناءه الذين ورثوا هذه المجموعة قاموا بتطويرها كثيرًا بعد وفاته 1996م حتى اليوم...”
3 - تعد شجرة السنديان أو البلوط مِنْ أهم أنواع الأشجار دائمة الخضرة، وهي أشجار معمّرة.
4 - لعائشة المؤيد -رحمها الله- تجربة شخصيّة مع الطّب البديل، نشرتها في كتاب من إعدادها اسمه “تجربتي مع الطّب البديل”، صدرت طبعته الأولى 2020، استعرضت فيه هو مجموعة علاجات طبيعية تكون مكملة للطب الحديث او بديلة عنه في علاج عدد من الأمراض.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك