العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

سطوة العلامات التجارية والوعي الجماعي

بقلم: نبيلة رجب

السبت ٢٠ يوليو ٢٠٢٤ - 02:00

هل‭ ‬سبق‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تساءلت‭ ‬كيف‭ ‬تمكنت‭ ‬الشركات‭ ‬من‭ ‬جعل‭ ‬شعاراتها‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬رموز‭ ‬مقدسة‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية؟‭ ‬كيف‭ ‬أصبحت‭ ‬هذه‭ ‬الشعارات‭ ‬جزءًا‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬هويتنا‭ ‬ووعينا‭ ‬الجماعي؟‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬فخ‭ ‬قديم‭ ‬بوجه‭ ‬حديث‭. ‬تشير‭ ‬الدكتورة‭ ‬أسماء‭ ‬عبدالعزيز،‭ ‬الكاتبة‭ ‬المصرية‭ ‬والباحثة‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬الإنسانية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفخ‭ ‬تمتد‭ ‬جذوره‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنسان‭ ‬القديم،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الطوطم‭ ‬يمثل‭ ‬رمزية‭ ‬خاصة‭. ‬اليوم،‭ ‬تحول‭ ‬هذا‭ ‬الطوطم‭ ‬إلى‭ ‬اللوغو‭ ‬أو‭ ‬العلامة‭ ‬التجارية،‭ ‬ليحقق‭ ‬نفس‭ ‬القدسية‭ ‬بطرق‭ ‬وأدوات‭ ‬معاصرة‭.‬

الطوطم‭: ‬هو‭ ‬كائن‭ ‬أو‭ ‬رمز‭ ‬يعتبر‭ ‬مقدسا‭ ‬ويمثل‭ ‬هوية‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬البدائية‭. ‬كان‭ ‬الطوطم‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬ارتباط‭ ‬القبيلة‭ ‬بالطبيعة‭ ‬والقوى‭ ‬الروحية،‭ ‬ويستخدم‭ ‬كوسيلة‭ ‬لتعزيز‭ ‬التماسك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والانتماء‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬المجموعة‭. ‬منذ‭ ‬قديم‭ ‬الأزل،‭ ‬والبشر‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬رموز‭ ‬تمثل‭ ‬هويتهم‭ ‬وتجمعهم‭ ‬تحت‭ ‬صفة‭ ‬مشتركة‭. ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬لكل‭ ‬قبيلة‭ ‬طوطمها‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬البدائية،‭ ‬الذي‭ ‬يعزز‭ ‬من‭ ‬شعورها‭ ‬بالانتماء‭ ‬والفخر‭.‬

مع‭ ‬تطور‭ ‬الحياة،‭ ‬تغيرت‭ ‬الرموز،‭ ‬لكن‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الشعور‭ ‬بالانتماء‭ ‬بقيت‭ ‬كما‭ ‬هي‭. ‬الشركات‭ ‬الحديثة‭ ‬استغلت‭ ‬هذه‭ ‬الحاجة‭ ‬النفسية،‭ ‬واستخدمت‭ ‬اللوغو‭ ‬كرمز‭ ‬يحمل‭ ‬معانٍ‭ ‬عميقة‭ ‬تتجاوز‭ ‬مجرد‭ ‬التصميم‭. ‬أصبح‭ ‬اللوغو‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬الشركة،‭ ‬ويمنح‭ ‬المستهلكين‭ ‬شعورًا‭ ‬بالتميز‭ ‬والانتماء‭. ‬وأصبح‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬الاستهلاك‭ ‬لتلبية‭ ‬الحاجات‭ ‬الأساسية‭ ‬إلى‭ ‬الاستهلاك‭ ‬لتلبية‭ ‬الرغبات‭ ‬النفسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬مما‭ ‬يظهر‭ ‬قوة‭ ‬التسويق‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الهوية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للأفراد‭.‬

شركة‭ ‬مثل‭ ‬آبل‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬حول‭ ‬علامتها‭ ‬التجارية‭ ‬هالة‭ ‬من‭ ‬القدسية‭ ‬والتميز‭. ‬الشعار‭ ‬البسيط‭ ‬والتصميم‭ ‬الأنيق‭ ‬جعل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المستهلكين‭ ‬يشعرون‭ ‬بالفخر‭ ‬والانتماء‭ ‬عند‭ ‬استخدام‭ ‬منتجاتها‭. ‬علامة‭ ‬نايكي‭ ‬أيضا‭ ‬تعتبر‭ ‬مثالا‭ ‬آخر،‭ ‬حيث‭ ‬يعبر‭ ‬شعارها‭ ‬‮«‬Just‭ ‬Do‭ ‬It‮»‬‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬التحفيز‭ ‬والإنجاز،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬المستخدمين‭ ‬يشعرون‭ ‬بأنهم‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬رياضي‭ ‬متميز‭.‬

تخيل‭ ‬معي‭ ‬المشهد‭: ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يجوبون‭ ‬أروقة‭ ‬المتاجر‭ ‬الكبرى،‭ ‬يتنقلون‭ ‬بين‭ ‬المنتجات‭ ‬وكأنهم‭ ‬في‭ ‬طقوس‭ ‬خاصة‭. ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬يذكرنا‭ ‬بأفراد‭ ‬القبيلة‭ ‬البدائية‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يجوبون‭ ‬حول‭ ‬طوطمهم‭. ‬اللوغو‭ ‬اليوم‭ ‬أصبح‭ ‬يمثل‭ ‬تلك‭ ‬القدسية‭ ‬القديمة،‭ ‬لكن‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رمزا‭ ‬للطبيعة‭ ‬أو‭ ‬الروحانية،‭ ‬أصبح‭ ‬رمزا‭ ‬للقيمة‭ ‬المادية‭. ‬تجربة‭ ‬التسوق‭ ‬تتجاوز‭ ‬مجرد‭ ‬شراء‭ ‬منتج؛‭ ‬إنها‭ ‬رحلة‭ ‬نفسية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬الإعلانات‭ ‬التي‭ ‬تخاطب‭ ‬أحلامنا‭ ‬وتطلعاتنا،‭ ‬إلى‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬المنتج‭ ‬في‭ ‬المتجر‭ ‬ونشعر‭ ‬برغبة‭ ‬ملحة‭ ‬في‭ ‬اقتنائه‭. ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬مليئة‭ ‬بالعواطف‭ ‬والمشاعر‭ ‬التي‭ ‬تحفزنا‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬بالشراء،‭ ‬وتجعلنا‭ ‬نشعر‭ ‬بالرضا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

في‭ ‬الماضي،‭ ‬كان‭ ‬المبشرون‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يروجون‭ ‬للطوطم‭ ‬وقيمه‭. ‬اليوم،‭ ‬المسوقون‭ ‬هم‭ ‬المبشرون‭ ‬الجدد،‭ ‬يروجون‭ ‬لمنتجات‭ ‬ويجعلونا‭ ‬نؤمن‭ ‬بأنها‭ ‬ستمنحنا‭ ‬قيمة‭ ‬إضافية‭ ‬لحياتنا‭. ‬الإعلانات‭ ‬أصبحت‭ ‬وسائل‭ ‬التبشير‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬تخاطب‭ ‬رغباتنا‭ ‬وتوجهنا‭ ‬نحو‭ ‬تقديس‭ ‬العلامات‭ ‬التجارية‭. ‬يعتمد‭ ‬المسوقون‭ ‬على‭ ‬القصص‭ ‬المؤثرة‭ ‬والرموز‭ ‬البصرية‭ ‬والتجارب‭ ‬الحسية،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬استغلال‭ ‬البيانات‭ ‬الضخمة‭ ‬وتقنيات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬لفهم‭ ‬سلوكيات‭ ‬المستهلكين‭ ‬بشكل‭ ‬أدق‭ ‬وتوجيه‭ ‬رسائلهم‭ ‬بفعالية‭ ‬أكبر‭.‬

كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬كمستهلكين‭ ‬تحقيق‭ ‬توازن‭ ‬صحي‭ ‬بين‭ ‬الشعور‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬العلامات‭ ‬التجارية‭ ‬وعدم‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬الاستهلاك‭ ‬المفرط؟‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نبدأ‭ ‬بتوعية‭ ‬أنفسنا‭ ‬حول‭ ‬أساليب‭ ‬التسويق‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬عواطفنا‭ ‬ونفسياتنا‭. ‬قراءة‭ ‬المراجع‭ ‬والدراسات‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬خطوة‭ ‬مفيدة‭. ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬تشير‭ ‬دراسة‭ ‬من‭ ‬‮«‬Journal‭ ‬of‭ ‬Marketing‭ ‬Research‮»‬‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الإعلانات‭ ‬العاطفية‭ ‬وسلوك‭ ‬المستهلك‭: ‬دور‭ ‬الوعي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الوعي‭ ‬بالتسويق‭ ‬العاطفي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يساعد‭ ‬الأفراد‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬قرارات‭ ‬أكثر‭ ‬وعيا‭ ‬وتوازنا‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة،‭ ‬تم‭ ‬توعية‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المشاركين‭ ‬بأساليب‭ ‬التسويق‭ ‬العاطفي‭ ‬وكيفية‭ ‬تأثيرها‭ ‬على‭ ‬القرارات‭ ‬الشرائية،‭ ‬وأظهرت‭ ‬النتائج‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬اتخذت‭ ‬قرارات‭ ‬شراء‭ ‬أكثر‭ ‬اتزانا‭ ‬وتحكما‭ ‬مقارنة‭ ‬بالمجموعة‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتلق‭ ‬أي‭ ‬توعية‭.‬

وفي‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬لا‭ ‬يسعنا‭ ‬إلا‭ ‬الإقرار‭ ‬بالدور‭ ‬المحوري‭ ‬الذي‭ ‬باتت‭ ‬تلعبه‭ ‬العلامات‭ ‬التجارية‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬المعاصرة‭. ‬فقد‭ ‬نجحت‭ ‬الشركات،‭ ‬عبر‭ ‬استراتيجيات‭ ‬تسويقية‭ ‬فائقة‭ ‬الذكاء،‭ ‬في‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬أعماق‭ ‬نفسياتنا،‭ ‬وتسخير‭ ‬حاجتنا‭ ‬الفطرية‭ ‬إلى‭ ‬الانتماء‭ ‬والتفرد‭ ‬لصالحها،‭ ‬لكن‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توفره‭ ‬لنا‭ ‬هذه‭ ‬العلامات‭ ‬من‭ ‬إشباع‭ ‬عاطفي‭ ‬ونفسي،‭ ‬يظل‭ ‬الخيار‭ ‬بأيدينا‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬حدود‭ ‬علاقتنا‭ ‬بها‭. ‬فكما‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬ترتقي‭ ‬بإحساسنا‭ ‬بذواتنا،‭ ‬يمكنها‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬تسحبنا‭ ‬إلى‭ ‬دوامة‭ ‬الاستهلاك‭ ‬اللامتناهي‭ ‬والارتهان‭ ‬لسطوتها‭ ‬الرمزية‭. ‬

الحل‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬اليقظة‭ ‬والتبصر،‭ ‬وفي‭ ‬إدراكنا‭ ‬العميق‭ ‬بأن‭ ‬جوهر‭ ‬إنسانيتنا‭ ‬لا‭ ‬يتحدد‭ ‬بعلاماتنا‭ ‬التجارية،‭ ‬بل‭ ‬بقيمنا‭ ‬ومبادئنا‭ ‬وأفعالنا‭. ‬فلنستمتع‭ ‬بما‭ ‬تجود‭ ‬به‭ ‬علينا‭ ‬هذه‭ ‬العلامات،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نفقد‭ ‬بوصلتنا‭ ‬الأخلاقية‭ ‬أو‭ ‬نتنازل‭ ‬عن‭ ‬سيادتنا‭ ‬على‭ ‬خياراتنا‭. ‬ولنتذكر‭ ‬دائما‭ ‬أننا‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬يصنع‭ ‬هويتنا‭ ‬الحقيقية،‭ ‬لا‭ ‬شعار‭ ‬على‭ ‬قميص‭ ‬أو‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬هاتف‭. ‬الرمز‭ ‬قد‭ ‬يعبر‭ ‬عنا،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يحدد‭ ‬كينونتنا‭. ‬فلنحافظ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الميزان‭ ‬الدقيق،‭ ‬ولنجعل‭ ‬من‭ ‬وعينا‭ ‬درعا‭ ‬يقينا‭ ‬شر‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬الاستهلاك‭ ‬المفرط‭ ‬والمظاهر‭ ‬الزائفة‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا