العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الإنسان والإنسانية في الفكر الإسلامي والحضارة الغربية

بقلم: الدكتور زكريا الخنجي

الأحد ١١ أغسطس ٢٠٢٤ - 02:00

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تربع‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬هرم‭ ‬الكائنات‭ ‬الحية‭ ‬منذ‭ ‬الأزل،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬تبلغ‭ ‬حقوقه‭ ‬منتهاها‭ ‬إلا‭ ‬حينما‭ ‬نزل‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬غار‭ ‬حراء‭ ‬على‭ ‬سيدنا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭.‬

وحتى‭ ‬نكون‭ ‬أكثر‭ ‬صراحة‭ ‬ووضوحًا‭ ‬فإننا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬الفكر‭ ‬والعقيدة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ولا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬الفترات‭ ‬الظلامية‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬حينما‭ ‬حكمها‭ ‬بعض‭ ‬الأمراء‭ ‬الذين‭ ‬صادروا‭ ‬الفكر‭ ‬وضيقوا‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬التعبير،‭ ‬وضيقوا‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬وتحكموا‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬احتياجاته،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مصالحهم‭ ‬الشخصية‭.‬

يتعامل‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬مع‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬قبضة‭ ‬من‭ ‬طين‭ ‬الأرض،‭ ‬ونفخة‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬الله،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬قبضة‭ ‬طين‭ ‬خالصة‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬مجرد‭ ‬أمر‭ ‬مادي‭ ‬وشهوات‭ ‬ورغبات‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتحقق،‭ ‬وليس‭ ‬روحًا‭ ‬خالصة‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬السمو‭ ‬والتنزيه‭ ‬عن‭ ‬الرغبات‭ ‬والشهوات،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬الأمران‭ ‬معًا،‭ ‬يشكلان‭ ‬وحدة‭ ‬مترابطة‭ ‬في‭ ‬كيان‭ ‬واحد،‭ ‬وفي‭ ‬وحدة‭ ‬مترابطة‭ ‬تختلف‭ ‬في‭ ‬خصائصها‭ ‬اختلافًا‭ ‬جذريًا،‭ ‬عن‭ ‬قبضة‭ ‬الطين‭ ‬الخالصة،‭ ‬ونفخة‭ ‬الروح‭ ‬الخالصة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تحمل‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والحين‭ ‬المتشابهات‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬وتلك؛‭ ‬حينما‭ ‬تجنح‭ ‬جنوحًا‭ ‬شديدًا‭ ‬نحو‭ ‬عالم‭ ‬الجسد‭ ‬أو‭ ‬عالم‭ ‬الروح،‭ ‬لكنها‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬متماثل‭ ‬أبدًا‭ ‬لأي‭ ‬من‭ ‬العنصرين‭ ‬منفصلين‭.‬

ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬المخلوق‭ ‬من‭ ‬هاتين‭ ‬المادتين‭ ‬كرمه‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬وجعله‭ ‬يتبوأ‭ ‬قمة‭ ‬هرم‭ ‬الكائنات‭ ‬الحية،‭ ‬إذ‭ ‬جعله‭ ‬خليفة‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬يطورها‭ ‬وينميها‭ ‬ويستعمرها‭ ‬في‭ ‬أفضل‭ ‬صورة‭ ‬كانت،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الإسراء‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬70‭ (‬وَلَقَدْ‭ ‬كَرَّمْنَا‭ ‬بَنِي‭ ‬آدَمَ‭ ‬وَحَمَلْنَاهُمْ‭ ‬فِي‭ ‬الْبَرِّ‭ ‬وَالْبَحْرِ‭ ‬وَرَزَقْنَاهُم‭ ‬مِّنَ‭ ‬الطَّيِّبَاتِ‭ ‬وَفَضَّلْنَاهُمْ‭ ‬عَلَى‭ ‬كَثِيرٍ‭ ‬مِّمَّنْ‭ ‬خَلَقْنَا‭ ‬تَفْضِيلًا‭)‬،‭ ‬فالإنسان‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬ليس‭ ‬مهمته‭ ‬الأكل‭ ‬والشرب‭ ‬والتناسل‭ ‬فقط‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬الكائنات‭ ‬الحية،‭ ‬ولا‭ ‬مهمته‭ ‬الإنتاج‭ ‬المادي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬خليفة‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬إعمارًا‭ ‬لها،‭ ‬ونشرًا‭ ‬للعدل،‭ ‬وسموًا‭ ‬بالروح،‭ ‬مهمته‭ ‬العبادة‭ ‬بمعناها‭ ‬الشامل‭ ‬من‭ ‬عقيدة‭ ‬صحيحة‭ ‬وأداء‭ ‬للشعائر،‭ ‬ونشاط‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال‭ ‬حيوي‭ ‬ليستقيم‭ ‬الكون‭.‬

في‭ ‬دراسة‭ ‬بعنوان‭ (‬الروابط‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭) ‬للباحث‭ ‬محمد‭ ‬حافظ‭ ‬سليمان‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬مايو‭ ‬2020‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬منبر‭ ‬الإسلام،‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬إنّ‭ ‬الإنسانية‭ ‬إحدى‭ ‬خصائص‭ ‬الإسلام،‭ ‬وإنها‭ ‬تشغل‭ ‬حيزًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬منطلقاته‭ ‬النظرية،‭ ‬وفي‭ ‬تطبيقاته‭ ‬العملية‭. ‬وقد‭ ‬حرص‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬تكريمه‭ ‬للإنسان،‭ ‬فجعل‭ ‬له‭ ‬حقوقه‭ ‬الكاملة‭ ‬غير‭ ‬المنقوصة‭ ‬في‮ ‬الحرية والكرامة والحياة‭ ‬الكريمة،‭ ‬فلا‭ ‬يحتقر‭ ‬أحد‭ ‬أو‭ ‬يعتدي‭ ‬عليه‭ ‬أحد،‭ ‬وإنّ‭ ‬عليه‭ ‬واجبات‭ ‬يؤدّيها‭ ‬تجاه‭ ‬المجتمع‭ ‬وأفراده‭ ‬في‭ ‬جوّ‭ ‬من‭ ‬الألفة‭ ‬والمحبة‭.‬‮ ‬لأن‭ ‬الله‭ ‬خلق‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬واحدة،‭ ‬وقد‭ ‬أكد‭ ‬المساواة‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭.‬‮ ‬وقد‭ ‬أذهب‭ ‬الله‭ ‬بالإسلام‭ ‬نخوة‭ ‬الجاهلية‭ ‬وتفاخرهم‭ ‬بالأنساب‭ ‬وبهذا‭ ‬حفظ‭ ‬الإسلام‭ ‬للفرد‭ ‬كرامته‭ ‬الإنسانية‭ ‬لينمي‭ ‬مواهبه‭ ‬وموارده‭ ‬ويعمل‭ ‬الخير‭ ‬لنفسه‭ ‬وللناس‭ ‬متعاونًا‭ ‬مع‭ ‬غيره‭ ‬على‭ ‬البر‭ ‬والتقوى‮»‬‭.‬

فالإسلام‭ ‬في‭ ‬فكره‭ ‬وعقيدته‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬الوالدين‭ ‬والأقارب،‭ ‬وحقوق‭ ‬الجيران،‭ ‬وحقوق‭ ‬الطفل،‭ ‬حقوق‭ ‬الأقليات،‭ ‬ودعا‭ ‬إلى‭ ‬التكافل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي،‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬السلوك‭ ‬الأخلاقي‭ ‬حتى‭ ‬حينما‭ ‬تقع‭ ‬الحروب‭ ‬والكوارث‭ ‬الطبيعية‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬ولقد‭ ‬اشتهر‭ ‬أن‭ ‬خليفة‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬الصديق‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ ‬كان‭ ‬يوصي‭ ‬الجيوش‭ ‬بهذه‭ ‬الوصية‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الناس،‭ ‬قفوا‭ ‬أوصيكم‭ ‬بعشر‭ ‬فأحفظوها‭ ‬عنى‭: ‬لا‭ ‬تخونوا‭ ‬ولا‭ ‬تغلوا،‭ ‬ولا‭ ‬تغدروا‭ ‬ولا‭ ‬تمثلوا،‭ ‬ولا‭ ‬تقتلوا‭ ‬طفلاً‭ ‬صغيرًا،‭ ‬ولا‭ ‬شيخًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬ولا‭ ‬امرأة،‭ ‬ولا‭ ‬تعقروا‭ ‬نخلاً‭ ‬ولا‭ ‬تحرقوه،‭ ‬ولا‭ ‬تقطعوا‭ ‬شجرة‭ ‬مثمرة،‭ ‬ولا‭ ‬تذبحوا‭ ‬شاةً‭ ‬ولا‭ ‬بقرة‭ ‬ولا‭ ‬بعيرًا‭ ‬إلا‭ ‬لمأكله،‭ ‬وسوف‭ ‬تمرون‭ ‬بأقوام‭ ‬قد‭ ‬فرغوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬الصوامع؛‭ ‬فدعوهم‭ ‬وما‭ ‬فرغوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬له،‭ ‬وسوف‭ ‬تقدمون‭ ‬على‭ ‬قوم‭ ‬يأتونكم‭ ‬بآنية‭ ‬فيها‭ ‬ألوان‭ ‬الطعام،‭ ‬فإن‭ ‬أكلتم‭ ‬منها‭ ‬شيئًا‭ ‬بعد‭ ‬شيء‭ ‬فاذكروا‭ ‬اسم‭ ‬الله‭ ‬عليها‭. ‬وتلقون‭ ‬أقوامًا‭ ‬قد‭ ‬فحصوا‭ ‬أوساط‭ ‬رؤوسهم‭ ‬وتركوا‭ ‬حولها‭ ‬مثل‭ ‬العصائب،‭ ‬فاخفقوهم‭ ‬بالسيف‭ ‬خفقًا‭. ‬اندفعوا‭ ‬باسم‭ ‬الله،‭ ‬أفناكم‭ ‬الله‭ ‬بالطعن‭ ‬والطاعون‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬دستور‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬كرامة‭ ‬الإنسان‭ ‬والإنسانية‭.‬

وبمعنى‭ ‬آخر‭ ‬فإن‭ ‬الإنسانية‭ ‬احتلت‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬أعظم‭ ‬مكانه،‭ ‬وأعلى‭ ‬منزله،‭ ‬فقد‭ ‬نوه‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬بشأنه‭ ‬وأشار‭ ‬إلى‭ ‬رفعت‭ ‬منزلته‭ ‬وعلو‭ ‬قدره،‭ ‬لذلك‭ ‬يجب‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬إنسانيته،‭ ‬والارتقاء‭ ‬بآدميته،‭ ‬وصون‭ ‬كرامته،‭ ‬وتعظيم‭ ‬حرماته،‭ ‬ولم‭ ‬تلك‭ ‬مجرد‭ ‬نظريات‭ ‬مذكورة‭ ‬كآيات‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬وإنما‭ ‬كانت‭ ‬منهاج‭ ‬حياة‭ ‬عاشت‭ ‬وتواجدت‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬لعشرات‭ ‬القرون،‭ ‬واسألوا‭ ‬التاريخ‭.‬

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬ففي‭ ‬الحضارة‭ ‬الغريبة‭ ‬المعاصرة‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬إشارة‭ ‬مسجلة‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬إبان‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬أحداثها‭ ‬1789‭ ‬ميلادية،‭ ‬ثم‭ ‬تم‭ ‬تدوينها‭ ‬في‭ ‬ميثاق‭ ‬عصبة‭ ‬الأمم‭ ‬سنة‭ ‬1920،‭ ‬ثم‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬1945،‭ ‬ثم‭ ‬أفردت‭ ‬دوليا‭ ‬بوثيقة‭ ‬خاصة‭ ‬هي‭ (‬الإعلان‭ ‬العالمي‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭) ‬الذي‭ ‬أقرته‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬10‭ ‬ديسمبر‭ ‬1948‭.‬

ولكن‭ ‬هل‭ ‬تم‭ ‬تحقيق‭ ‬هذه‭ ‬المعاني‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع؟‭ ‬تعالوا‭ ‬لنقرأ‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬نشر‭ ‬حول‭ ‬ذلك‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬نشرت‭ ‬مراكز‭ ‬مكافحة‭ ‬الأمراض‭ ‬والوقاية‭ ‬إحصائيات‭ ‬جديدة‭ ‬تنبئ‭ ‬عن‭ ‬زيادة‭ ‬عدد‭ ‬الوفيات‭ ‬بسبب‭ ‬الانتحار‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬زيادة‭ ‬مريعة‭ ‬منذ‭ ‬1999م،‭ ‬يشير‭ ‬الدكتور‭ ‬كلاري‭ ‬روتلبرج‭ ‬عالم‭ ‬النفس‭ ‬والسلوك‭ ‬إلى‭ ‬أزمة‭ ‬الإنسان‭ ‬الحديث‭ ‬وهي‭ ‬أزمة‭ ‬انعدام‭ ‬المعنى،‭ ‬حيث‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬الشعور‭ ‬بحالة‭ ‬انعدام‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬وبين‭ ‬شرب‭ ‬الخمر‭ ‬وإدمان‭ ‬المخدرات‭ ‬والاكتئاب‭ ‬والقلق‭ ‬وأخيرًا‭ ‬الانتحار‭.‬

يقول‭ ‬كلاري‭: ‬عندما‭ ‬يتعرض‭ ‬الناس‭ ‬لفقد‭ ‬المعنى‭ ‬والضغوط‭ ‬والصدمات‭ ‬حينها‭ ‬يكون‭ ‬للذين‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬لحياتهم‭ ‬غاية‭ ‬قابلية‭ ‬أكثر‭ ‬للمواجهة‭ ‬وللتغلب‭ ‬على‭ ‬المحن‭ ‬والتعافي‭ ‬منها‭. ‬لذلك‭ ‬أصبحت‭ ‬حاجة‭ ‬الإنسان‭ ‬الغربي‭ ‬إلى‭ ‬الانتحار‭ ‬أمرًا‭ ‬متفهما،‭ ‬فنشأت‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬الأوروبية‭ ‬منظمات‭ ‬ومراكز‭ ‬تقدم‭ ‬خدمة‭ ‬المساعدة‭ ‬على‭ ‬إنهاء‭ ‬الحياة‭ ‬لتخفيف‭ ‬المعاناة‭ ‬والألم،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالقتل‭ ‬الرحيم،‭ ‬وينظر‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أحد‭ ‬تطبيقات‭ ‬الحرية‭ ‬الشخصية،‭ ‬فكل‭ ‬إنسان‭ ‬له‭ ‬الحرية‭ ‬المطلقة‭ ‬لوضع‭ ‬النهاية‭ ‬لحياته،‭ ‬وله‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الموت‭ ‬بكرامة‭ ‬كما‭ ‬يزعمون‭.‬

وربما‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬الغريبة‭ ‬المعاصرة‭ ‬اختصرت‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬المادي،‭ ‬وتعاملت‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنه‭ ‬مادة‭ ‬ومادية،‭ ‬فلا‭ ‬روابط‭ ‬إنسانية‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬ولا‭ ‬علاقات‭ ‬إنسانية‭ ‬بين‭ ‬الجيران،‭ ‬أو‭ ‬الأب‭ ‬والأم‭ ‬والأولاد،‭ ‬وحتى‭ ‬العلاقات‭ ‬الزوجية‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬علاقات‭ ‬جنسية‭ ‬مادية‭ ‬بحته،‭ ‬فلا‭ ‬آلفه‭ ‬ولا‭ ‬مودة‭ ‬ولا‭ ‬رحمة،‭ ‬لذلك‭ ‬جاءت‭ ‬فكرة‭ ‬الشواذ،‭ ‬والفكر‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬ونمى‭ ‬الاحتكار،‭ ‬والغش،‭ ‬والربا،‭ ‬والسرقات،‭ ‬فعاش‭ ‬والمطلوب‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬لنفسه‭ ‬فقط‭ ‬ولا‭ ‬يهتم‭ ‬بأمر‭ ‬بأحد‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬الغريبة‭ ‬انفردت‭ ‬عبر‭ ‬تاريخها‭ ‬الطويل‭ ‬بمنهجية‭ (‬الإقصاء‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬تعني‭ ‬ألا‭ ‬نرى‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬تشاركي‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬منافسًا‭ ‬لدودًا‭ ‬وعدوًا‭ ‬محتملاً‭. ‬والتاريخ‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬فبعدما‭ ‬وصل‭ ‬الأوروبيين‭ ‬لأستراليا‭ ‬مثلاً‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬آثار‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬الأصلية‭ ‬حتى‭ ‬باتوا‭ ‬يدرسونهم‭ ‬على‭ ‬أنّهم‭ ‬فلكلور‭ ‬وانثروبولوجيا‭. ‬وكذلك‭ ‬فعل‭ ‬الأمريكان‭ ‬مع‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر،‭ ‬فالتاريخ‭ ‬يشهد‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬حضارة‭ ‬دموية‭ ‬عنصرية‭.‬

يتتبع‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬موران‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬أصولها‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬اليونان‭ ‬وروما،‭ ‬بل‭ ‬يستكشف‭ ‬جذور‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬للعالم‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭ ‬وتحولات‭ ‬الدين‭ ‬والثقافة‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬ويقترح‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬نهج‭ ‬أكثر‭ ‬شمولية‭ ‬وترابطًا‭ ‬لفهم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والعالم‭ ‬الطبيعي‭ ‬لمعالجة‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭.‬

وحتى‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬كلامنا‭ ‬عبثًا،‭ ‬يمكنكم‭ ‬ببساطة‭ ‬أن‭ ‬تأخذوا‭ ‬كاميرا‭ ‬فيديو‭ ‬معكم‭ ‬وتسيروا‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬أمريكا‭ ‬ودول‭ ‬الغرب،‭ ‬ثم‭ ‬قوموا‭ ‬بتصوير‭ ‬المشردين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬البيوت،‭ ‬الجوعى‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬الطعام،‭ ‬المتعاطين‭ ‬للمخدرات‭ ‬والمسكرات،‭ ‬وأصحاب‭ ‬البشرة‭ ‬السمراء‭ ‬وماذا‭ ‬يفعل‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬وفي‭ ‬المؤسسات،‭ ‬وحتى‭ ‬المرأة‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬كرامتها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬هناك‭.‬

فهل‭ ‬نستغرب‭ ‬اليوم‭ ‬مما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬غزة؟‭ ‬فهذه‭ ‬حضارتهم‭ ‬وهذا‭ ‬فكرهم،‭ ‬وما‭ ‬نحن‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭ -‬مهما‭ ‬فعلنا‭- ‬إلا‭ ‬مجرد‭ ‬حيوانات‭ ‬تسير‭ ‬نحو‭ ‬المسلخ‭.‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا