أشرت في المقال السابق إلى مضامين وأهمية الشراكات الدولية لأمن منطقة الخليج العربي إلا أنه يجب الأخذ بالاعتبار أن تلك الشراكات هي نتاج سياسات وتوجهات نخب غربية، كما هو الحال بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة أو التيارات السياسية في أوروبا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وبينهما تيار الوسط، فضلاً عن تداول السلطة بين حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا، وكغيري من باحثي العلاقات الدولية المهتمين بتغير تلك النخب أتابع نتائج تلك الانتخابات التي جاءت متزامنة لتعكس نخباً جديدة، صحيح أن هناك مصالح استراتيجية لتلك الدول تجاه منطقة الخليج العربي ترتكز على تاريخ طويل من العلاقات وأحداث وأزمات كان لتلك الدول دور بارز فيها ابتداءً بالحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات ومروراً بحرب تحرير دولة الكويت عام 1991 وانتهاءً بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بالإضافة إلى صدور تصريحات من جانب تلك النخب تؤكد، وبما لا يدع مجالاً للشك، خصوصية وأهمية منطقة الخليج العربي للأمن العالمي بما يعني أنه لن تكون هناك تحولات دراماتيكية في سياسات تلك الدول والمنظمات تجاه المنطقة حتى مع تغير النخب السياسية الحاكمة فيها، وهذا أمر صحيح في مجمله ولكن لا بد من الأخذ بالاعتبار تكتيكات تلك السياسات حتى وإن لم تشهد تغيراً في جوهرها ولكن كما هو معروف لكل حزب مبادئ وآليات لوضع تلك المبادئ موضع التنفيذ، وبنظرة سريعة، فإن السياسات الخارجية الأمريكية عموماً تتأسس على تحقيق التوازن بين المصالح والقيم، وتكون إحدى الركيزتين أكثر وضوحاً ارتباطاً بطبيعة الحزب الحاكم وهو ما اتضح على سبيل المثال خلال حقبتي باراك أوباما ودونالد ترامب، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حزبي العمال والمحافظين، فلا يمكن التكهن بمضامين تلك السياسة تجاه منطقة الشرق الأوسط والخليج، ولكنها في تقديري ترتبط بعاملين الأول: الأولويات الخارجية بالنسبة إلى بريطانيا ارتباطاً بالتحديات الاقتصادية التي تواجهها، والثاني التنسيق البريطاني مع الولايات المتحدة بشأن منطقة الشرق الأوسط وكذلك أولوياتها بالنظر إلى أن تلك المنطقة ليست الوحيدة على أجندة الإدارة الأمريكية، فهناك ملف الحرب الأوكرانية والتحدي الصيني في مناطق للولايات المتحدة فيها مصالح حيوية ومن بينها منطقة الخليج العربي، وصولاً إلى السياسات الجماعية للاتحاد الأوروبي من حيث صعود اليمين المتطرف داخل مؤسسات الاتحاد ومدى تأثير ذلك على سياسات الاتحاد أخذاً في الاعتبار أن الفترة التي سبقت تلك الانتخابات قد شهدت تطورات مهمة منها إطلاق الاتحاد الأوروبي استراتيجية الشراكة مع دول الخليج وقد بدأت تؤتي ثمارها من خلال تمديد فترة تأشيرة دخول مواطني بعض دول الخليج الى أوروبا لخمس سنوات وتطلع دول الخليج الى المزيد منها الإعفاء النهائي من تلك التأشيرات على غرار ما قامت به بعض الدول الأخرى ومنها روسيا.
ومع أنه من المهم بالنسبة إلى دول الخليج وخاصة الباحثين الاهتمام بمسار تلك التغيرات في الدول الكبرى، فإنه يجب ألا نغفل ثلاث حقائق أولها: أن هناك استراتيجيات للأمن القومي لتلك الدول تصدر كل عدة سنوات وبعضها قد يمتد لولاية الرئيس الجديد وهي نتيجة فرق عمل من المدنيين والعسكريين على مدى سنوات يتم تحديد الأولويات فيها بالنسبة إلى تلك الدول وتكون ملزمة للرئيس الجديد بتنفيذها، وكذلك المنظمات منها على سبيل المثال حلف الناتو الذي أصدر مفهومه الاستراتيجي الثامن في مايو 2022 وتضمن أن الأولوية بالنسبة إلى الحلف هي مكافحة الإرهاب في دول الساحل الإفريقي وبالتالي لا مجال للحديث المطول عن قضايا المنطقة ومن بينها تهديدات الأمن البحري على سبيل المثال، أيضاً فإن المتابع لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في العام ذاته يجد فيها فقرة مختصرة عن توجه الولايات المتحدة لدعم مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ولكنه ليس الهدف الذي يحظى بالأولوية في منطقة الشرق الأوسط، الحقيقة الثانية: إحجام الدول الكبرى عن الانخراط العسكري المباشر في الأزمات كما كان عليه الحال في الماضي إلا إذا استدعى الأمر ذلك حال وجود تجاوزات لما تراه أنه «خطوط حمراء» تقديراً من جانب تلك النخب، أما الحقيقة الثالثة والأخيرة فهي أنه على الرغم من وجود تنافس بين تلك القوى في سياساتها الخارجية، لكنه أقل حدة بالنسبة الى منطقة الخليج العربي لأكثر من سبب منها أن الدول الأوروبية لديها تداخل في العضوية بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وبالتالي يصعب أحياناً الحديث عن الاتحاد الأوروبي والناتو كمنظمتين منفصلتين، ناهيك عن التنافس التقليدي بين الدول الأوروبية ذاتها تجاه منطقة الخليج العربي.
ومع أهمية الجهود البحثية والآراء الأكاديمية التي تولي الانتخابات في أوروبا وبريطانيا والولايات المتحدة أهمية بالغة سواء ما تم حسمه بالفعل أو الذي لا يزال منتظراً، فإن تلك الجهود يجب أن تتجاوز الحديث عن التوقعات إلى تحديد احتياجات المنطقة من تلك النخب الجديدة بعيداً عن مجرد تأكيد أهمية الشراكات، فالمنطقة الآن تشهد حالة من عدم الاستقرار على خلفية الحرب في غزة، حتى أن الحرب الأوكرانية لها تداعيات وخاصة على صعيد قطاع الطاقة، وبالتالي فإن الرؤية الأكاديمية للنخب الغربية القادمة يجب أن تنطلق من ثلاثة محددات أولها: أن هناك حاجة إلى دور وجهود ملموسة لنزع فتيل حالة عدم الاستقرار الإقليمي والتي من أبرزها تأثير احتدام الصراعات الإقليمية على مصالح الدول الغربية من الاعتداء على منشآت النفط إلى تهديد طرق النقل البحري وصولاً لإغلاق حقول إنتاج النفط وجميعها تحديات تحتاج لتعاون إقليمي- دولي، وثانيها: وكما أشرت في المقال السابق أن الخليج العربي لم يعد حكراً على قوة واحدة والحديث ليس من المنظور العسكري البحت وإنما النفوذ الاقتصادي المتنامي لبعض الأطراف الدولية فمنذ عام 2020 حلت الصين محل الاتحاد الأوروبي لتصبح الشريك التجاري الأول لدول الخليج العربي، وثالثها: كيفية تأسيس شراكات مستدامة تأخذ باعتبارها مصالح الطرفين وتحديد آليات لتنفيذها في ظل استمرار وجود مصالح حيوية للدول الكبرى في المنطقة وقدرة دول الخليج على لعب دور إقليمي مؤثر وهو ما أكدته الكثير من الأزمات.
وفي تقديري أن المدخل الفعال للتعامل مع تلك النخب الجديدة في الدول الأوروبية والغرب يكون من خلال مجلس التعاون لدول الخليج العربية والذي لديه خبرة ممتدة في تأسيس الشراكات مع الدول والتكتلات الدولية، والآن لديه قائمة من تلك الشراكات، فالمجلس لديه قدرات اقتصادية وتجارب أمنية يمكن توظيفها ضمن مسارات تفاوضية في مواجهة تلك التحولات تكاملاً لا تصادماً في ظل وجود مصالح استراتيجية مشتركة.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك