كانت –ولا تزال– منطقة الشرق الأوسط مسرحا لصراعات أدى بعضها إلى حروب لم تكن كل دول المنطقة بمنأى عنها بل والقوى الكبرى أيضاً، إلا أن تلك الحروب في الماضي كانت واضحة ومعروف أسبابها بل إنها استغرقت مدة زمنية سواء أكانت قصيرة أم طويلة والأهم أنه كانت أطرافها دول، وقد رتبت بعض تلك الحروب نتائج طويلة الأمد لا تزال ذات تأثير حتى الآن ومنها الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 الذي أثر وبشكل بالغ على منظومة الأمن الإقليمي أو بالأحرى توازن القوى التقليدي القائم.
فمنذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن نجد أن الخطاب الإقليمي والعالمي مضمونه واحد وهو الحرص على عدم توسع رقعة الصراع والحيلولة دون اندلاع حرب شاملة وصدور تصريحات رسمية من كل الأطراف أنه لا أحد يرغب في تلك الحرب ولكن ما يحدث على أرض الواقع حدا بالعديد من الكتاب لوضع تعريفات لتلك الحالة منها «الحرب المفتوحة»، «الحرب الخاطفة»، «الحرب المحدودة»، وجميعها توصيفات دقيقة وهي أخطر من الحروب الشاملة والمباشرة، لأن تلك الأخيرة ستنتهي إلى إيضاح موازين القوى الحقيقية للأطراف المختلفة ولكن ما تشهده المنطقة حالياً وخصوصاً مع دخول حزب الله على مسار المواجهة بعد تأكيد مقتل أمينه العام هي حرب عبثية لعدة أسباب أولها: لا توجد أهداف محددة معلنة يمكن القول إنها لو تحققت لانتهت الحرب ولكن الجميع يتحدث عن هدف تحقيق الأمن في منطقة محددة ولكن ضمن معادلة صفرية أي أمنه يتحقق بالقضاء على الطرف الآخر وتلك مهمة مستحيلة في كل الصراعات التي شهدتها مناطق مختلفة من العالم، وثانيها: إن المواجهات كما أشرت ليست بين دول ولكن بين دول وجماعات دون الدول وهي أضحت سمة للعديد من الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وبعيداً عن حالة فلسطين، فإن دول المنطقة يجب أن تعي أن تلك الجماعات أضحت جزءا من معادلة الصراعات سواء في بعض دول الجوار أو ضمن العلاقات الإقليمية عموماً وهي الجماعات التي لا يوجد إجماع دولي عليها ما بين دول ترى أنها جماعات سياسية وأخرى تصنف بعضها بأنها جماعات إرهابية، وثالثها: تأثير تلك المواجهات المزمنة في المدنيين سواء أعداد القتلى أو الجرحى أو حالات النزوح الجماعي.
وفي تقديري أن المهمة الأساسية لكل القوى الإقليمية والدولية ليس فقط وقف تلك المواجهات العبثية وإنما الحفاظ على توازن القوى الإقليمي لأن ما تشهده المنطقة في الوقت الراهن وإن تعددت مظاهره ولكن يجمعه أمر واحد وهو محاولات تغيير توازن القوى لصالح أطراف معينة، وتدرك دول المنطقة أن المخرج من تلك المواجهات إنما ينطلق بداية من إيجاد حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية وفقاً للقرارات الأممية ومن هنا جاء إعلان وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إطلاق «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين» وذلك خلال الاجتماع الوزاري بشأن القضية الفلسطينية على هامش أعمال الأسبوع رفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التاسعة والسبعين في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية وهي الدعوة التي تكتسب أهميتها البالغة مضموناً وتوقيتاً فالمملكة هي صاحبة المبادرة العربية للسلام عام 2002 التي تضمنت بنوداً استهدفت إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي.
إلا أنه على الجانب الدولي أيضاً فإن الدول الكبرى تضطلع بمسؤولية في وضع حد لهذا الصراع للحيلولة دون انفجاره بما يؤثر في مصالح الجميع، فالحروب اللامتكافئة ليست في صالح الدول وتقدم المواجهات مع جماعة الحوثي دليل على ذلك والتي تقترب من عام حتى الآن دون تحقيق نتائج ملموسة على الأرض، صحيح أنها حدت من وتيرة الهجمات على الملاحة البحرية ولكنها لم تنه تلك الهجمات ولم توقفها ولا تزال هناك قدرة على إغراق السفن والتهديد بكوارث بيئية غير مسبوقة، ومن ثم فإن ثمة جهودا مطلوبة من القوى الكبرى ليس فقط على الصعيد الدبلوماسي من خلال إصدار القرارات الأممية ولكن وضعها موضع التطبيق وممارسة الضغوط على الأطراف المختلفة لمنع التصعيد، وفي تصوري أن المسألة بالرغم من ارتباطها بتوقيت بالغ الصعوبة بالنسبة إلى الانتخابات الأمريكية ولكن بغض النظر عمن سيصل إلى البيت الأبيض فإنه ليس من المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة أن تشهد المنطقة المزيد من التدهور الأمني لثلاثة أسباب أولها: بغض النظر عن توجهات كل إدارة أمريكية جديدة فإن تلك المنطقة ستظل تحظى بأهمية بالغة لا ترتبط بالضرورة بالنفط والممرات الاستراتيجية ولكنها أصبحت مقدمة للأمن وليس ملتقى فقط وهو ما أكدته العديد من الأزمات التي احتاجت الولايات المتحدة فيها لشركاء على المستوى الإقليمي، وثانيها: احتدام التنافس الدولي تجاه المنطقة مجدداً وفي ظل استمرار الحرب الأوكرانية فإن تلك المنطقة تصبح ضمن مساومات القوى الكبرى التي وضعتها ضمن استراتيجيات الأمن القوي الخاصة بها، وثالثها: أن التاريخ يؤكد أن تحقيق الأمن الإقليمي قد ارتكز على توازن القوى وهو ما لم يتحقق ذاتيا بل كان من خلال السياسات الغربية، ذلك المفهوم الذي تم تدميره مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 فأنتج جماعات دون الدول لا تعترف بمفهوم الدولة الوطنية الموحدة وإنما لكل منها مشروعها الخاص.
ومع أهمية ما سبق فإن ثمة مسؤولية جسيمة على المنظمة الأممية بعيداً عن المهام الإنسانية وإصدار القرارات ولعل إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثالث والعشرين من سبتمبر 2024 وبالإجماع ودون تصويت قرارًا يتضمن اتفاقًا رئيسيًا يُعرف بـ «ميثاق المستقبل» يعد خطوة عالمية مهمة ومضمونه باختصار ضمان أن المؤسسات الدولية لديها القدرة على العمل في عالم شهد تغيراً كبيراً منذ تأسيس تلك المؤسسات وهو بمثابة التزام قوي من جانب الدول بالعمل معاً لضمان مستقبل أفضل للبشرية، ويتضمن خمسة مجالات هي: التنمية المستدامة، السلم والأمن الدوليان، العلوم والتكنولوجيا، الشباب والأجيال القادمة، وإحداث تغيير في الحوكمة العالمية.
وعود على ذي بدء فإنه في ظل قدرة الجماعات دون الدول على توظيف التكنولوجيا الحديثة في تنفيذ اغتيالات وتهديد المنشآت الحيوية للدول ومع قدرتها على الترويج لأيديولوجيتها عبر وسائل الإعلام الحديثة ومع استمرار وجود مصالح حيوية للدول الكبرى في تلك المنطقة ليس أقلها الملاحة البحرية فإن ثمة ضرورة استراتيجية لوقف تلك المواجهات العبثية، صحيح أنه لا أحد يرغب في الحرب الشاملة والتي يمكن أن تكون بدايتها معروفة ولكن لا يمكن التكهن بنهايتها حتى أطرافها، التي لا يزال بعضها حتى الآن يمارس الردع بالشك ولكن مع اندلاع الحرب سيكون من الصعب معرفة الأسلحة المستخدمة وطبيعة تلك المواجهات، الشرق الأوسط يحتاج إلى مبادرة دولية شاملة الآن وقبل أي وقت مضى، فضبط النفس لن يدوم.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك