العدد : ١٧٠٥٧ - الأربعاء ٠٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٧ - الأربعاء ٠٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

الخالة أمينة ورائحة زمن الطيبين!

{ إنه‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬يشتد‭ ‬وهجه‭ ‬بريقا‭ ‬ونحن‭ ‬نسند‭ ‬ظهورنا،‭ ‬ونُدخل‭ ‬الطمأنينة‭ ‬إلى‭ ‬قلوبنا،‭ ‬حين‭ ‬نرى‭ ‬تلك‭ ‬الوجوه‭ ‬الطيبة‭ ‬التي‭ ‬صاحبتنا‭ ‬منذ‭ ‬طفولتنا،‭ ‬فتفتحت‭ ‬عيوننا‭ ‬على‭ ‬مرآهم‭. ‬وعلى‭ ‬دفء‭ ‬الوصل‭ ‬بهم،‭ ‬خاصة‭ ‬أولئك‭ ‬الأقارب‭ ‬الذين‭ ‬نشد‭ ‬الرحال‭ ‬إلى‭ ‬بيوتهم‭ ‬دائما‭ ‬ويعاودون‭ ‬الزيارة‭ ‬بعد‭ ‬فترة،‭ ‬وتربطنا‭ ‬بهم‭ ‬صلة‭ ‬روحية‭ ‬وألفة‭ ‬عائلية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬الأزمان‭ ‬التي‭ ‬عشناها‭ ‬معهم،‭ ‬لأنه‭ ‬الزمن‭ ‬الموصوف‭ ‬بزمن‭ ‬الطيبين،‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬غادر‭ ‬دنيانا‭ ‬أحدهم‭ ‬زادت‭ ‬غربة‭ ‬الزمن‭ ‬الآلي‭ ‬والمادي‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬اليوم،‭ ‬فتلك‭ ‬الوجوه‭ ‬والقلوب‭ ‬الطيبة‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬مضى،‭ ‬وحيث‭ ‬حميمية‭ ‬الصلات‭ ‬العائلية‭ ‬والأسرية‭ ‬كانت‭ ‬تسطر‭ ‬لنا‭ ‬أروع‭ ‬الذكريات،‭ ‬وتفتح‭ ‬أمامنا‭ ‬مخيال‭ ‬الطفولة‭ ‬بالحكايات،‭ ‬ودفء‭ ‬العائلة‭ ‬الممتدة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬فيها‭ ‬القريب‭ ‬قريبه،‭ ‬ولا‭ ‬الصديق‭ ‬صديقه،‭ ‬ولا‭ ‬الجار‭ ‬جاره،‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬انخرطت‭ ‬حبات‭ ‬المسبحة‭ ‬واحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭. ‬فيرحل‭ ‬الآباء‭ ‬والأمهات‭ ‬ثم‭ ‬الأقارب‭ ‬فالأصدقاء،‭ ‬فالأسماء‭ ‬التي‭ ‬سجلت‭ ‬في‭ ‬أرواحنا‭ ‬بصمتها،‭ ‬نشعر‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬يزداد‭ ‬غربة‭ ‬بنا‭ ‬وفينا،‭ ‬وأننا‭ ‬نفقد‭ ‬أواصرنا‭ ‬بكل‭ ‬من‭ ‬نحب،‭ ‬فتشتعل‭ ‬الذاكرة‭ ‬بهم‭ ‬مجددا‭ ‬مع‭ ‬الرحيل،‭ ‬وتأبى‭ ‬الاستسلام‭ ‬للخواء‭ ‬أو‭ ‬للفراغ‭ ‬الذي‭ ‬يتركونه‭ ‬في‭ ‬أرواحنا‭!‬

{ من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الخالة‭ ‬‮«‬أمينة‭ ‬أبو‭ ‬الفتح‮»‬‭ ‬التي‭ ‬رحلت‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬عن‭ ‬دنيانا25‭/‬10،‭ ‬وبها‭ ‬اجتمعت‭ ‬كل‭ ‬خيوط‭ ‬الحنين‭ ‬التي‭ ‬تشدنا‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬الطيبين،‭ ‬وصوتها‭ ‬رغم‭ ‬بعد‭ ‬المسافة‭ ‬الزمنية‭ ‬بين‭ ‬الطفولة‭ ‬والكهولة،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يرن‭ ‬في‭ ‬الأذن،‭ ‬وهي‭ ‬تطمئن‭ ‬علينا‭ ‬ونحن‭ ‬صغار‭ ‬نلعب‭ ‬في‭ ‬حوش‭ ‬بيتها،‭ ‬ذلك‭ ‬الحوش‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يطل‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬الحِد‭ ‬من‭ ‬بابه‭ ‬الخارجي‭ ‬الآخر،‭ ‬فنتراكض‭ ‬إلى‭ ‬سيف‭ ‬البحر،‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭ ‬لنا‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تبتعدوا‭ ‬واحذروا‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬مد‮»‬‭ ‬لكننا‭ ‬نضحك‭ ‬ونركض‭ ‬ونمرح‭ ‬ونصطاد‭ ‬القواقع‭ ‬ونجمعها،‭ ‬ونمسك‭ ‬بنجمات‭ ‬البحر،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تذهلنا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الطفولة‭ ‬البعيدة،‭ ‬حتى‭ ‬ترسخت‭ ‬مياه‭ ‬البحر‭ ‬وترابه‭ ‬في‭ ‬أقدامنا‭ ‬وأيدينا،‭ ‬ثم‭ ‬نعود‭ ‬مجددا‭ ‬الى‭ ‬البيت‭ ‬الكبير،‭ ‬وأمهات‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬متعة‭ ‬الحوار‭ ‬العائلي‭ ‬الأليف،‭ ‬فنطمئن‭ ‬إلى‭ ‬قلوبهم،‭ ‬فيما‭ ‬وجه‭ - ‬الخالة‭ ‬أمينة‭ ‬‮«‬يشع‭ ‬بفرح‭ ‬التجمع‭ ‬العائلي،‭ ‬وهي‭ ‬تمد‭ ‬سفرة‭ ‬الغداء‭ ‬أمامنا،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬لها‭ ‬وللعائلة‭ ‬في‭ ‬الحد‭. ‬

الخالة‭ ‬أمينة‭ ‬وجه‭ ‬العائلة‭ ‬الأليف‭ ‬في‭ ‬امتداد‭ ‬عائلة‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬الفتح‮»‬،‭ ‬وحيث‭ ‬أمي‭ ‬تسرد‭ ‬الحكايات‭ ‬عن‭ ‬ابنة‭ ‬خالتها‭ ‬أمينة،‭ ‬والأخت‭ ‬الأصغر‭ ‬‮«‬فاطمة‮»‬‭ ‬‮«‬وأبو‭ ‬الفتح‮»‬‭ ‬الأب‭ ‬والعمود‭ ‬الفقري‭ ‬للعائلة‭ ‬المتعلقة‭ ‬بحكاياته‭ ‬وقصصه‭ ‬وكتبه‭ ‬القديمة،‭ ‬ومنها‭ ‬السرديات‭ ‬التاريخية،‭ ‬وكانت‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله،‭ ‬تذكره‭ ‬دائماً‭ ‬بمحبة‭ ‬خاصة،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬بدوره‭ ‬يخصها‭ ‬بالرعاية‭ ‬والمحبة،‭ ‬وكانت‭ ‬أمينة‭ ‬وفاطمة‭ ‬هما‭ ‬الأليفتان‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬الزيارات‭ ‬العائلية‭ ‬المتبادلة‭ ‬مع‭ ‬البنات،‭ ‬وحيث‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬تقرر‭ ‬الوالدة‭ ‬يوم‭ ‬الزيارة،‭ ‬حتى‭ ‬يشع‭ ‬الفرح،‭ ‬فهناك‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬البيئة‭ ‬الثقافية‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العائلة،‭ ‬وحيث‭ ‬أخيهما‭ ‬‮«‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬أبو‭ ‬الفتح‮»‬‭ ‬كان‭ ‬يخصني‭ ‬وأنا‭ ‬مازلت‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬بكتب‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬‮«‬الروائية‮»‬،‭ ‬وثلاثيته‭ ‬المشهورة‭! ‬هل‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬بدأ‭ ‬تعلقي‭ ‬بالرواية؟‭!‬

{ اليوم‭ ‬رحلت‭ ‬‮«‬أمينة‭ ‬أبو‭ ‬الفتح‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصابنا‭ ‬ككل‭ ‬الآخرين‭ ‬وباء‭ ‬الانفصال‭ ‬العائلي‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬وتباعدت‭ ‬الزيارات،‭ ‬ولكن‭ ‬بقيت‭ ‬المحبة‭ ‬ذاتها‭ ‬متوهجة‭ ‬في‭ ‬القلب،‭ ‬والسؤال‭ ‬لم‭ ‬ينقطع،‭ ‬وبرحيلها‭ ‬شعرت‭ ‬فجأة،‭ ‬أن‭ ‬عموداً‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬أعمدة‭ ‬القلب‭ ‬ينهار،‭ ‬وقد‭ ‬رحلت‭ ‬قبلها‭ ‬أمي،‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬لها‭: ‬‮«‬يُمة‭ ‬إيش‭ ‬رأيك‭ ‬نروح‭ ‬بيت‭ ‬فاطمة‭ ‬وأمينة‭ ‬هناك‭ ‬وبقية‭ ‬العائلة‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬تنشرح‭ ‬أساريرها‭ ‬وكأني‭ ‬جلبت‭ ‬لها‭ ‬أثمن‭ ‬هدية‭! ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬تحبهم،‭ ‬ومثلها‭ ‬كنت‭ ‬أحبهم،‭ ‬ومثلنا‭ ‬هم‭ ‬يبادلوننا‭ ‬المحبة،‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬الشقيق‭ ‬الأكبر‭ ‬‮«‬محمد‭ ‬أبو‭ ‬الفتح‮»‬‭ ‬يزورنا‭ ‬بين‭ ‬فترة‭ ‬وأخرى‭ ‬للاطمئنان،‭ ‬رغم‭ ‬كثرة‭ ‬مشاغله،‭ ‬ولا‭ ‬ينسى‭ ‬أبداً‭ ‬بنات‭ ‬الخالة‭ ‬أمي‭ ‬وخالتي‭ ‬ثاجبة‭. ‬

{ أمينة‭.. ‬هل‭ ‬أقول‭ ‬إنك‭ ‬تركت‭ ‬فراغا‭ ‬سواء‭ ‬تعرفين‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تعرفين‭ ‬أم‭ ‬إنك‭ ‬تركت‭ ‬مكاناً‭ ‬لا‭ ‬يملأه‭ ‬غيرك،‭ ‬أم‭ ‬إن‭ ‬فضاء‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬الجميل‭ ‬كان‭ ‬يؤطره‭ ‬وجهك‭ ‬وطيبة‭ ‬قلبك‭ ‬وابتسامتك‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬ابتسامة‭ ‬أمي؟‭! ‬أم‭ ‬إن‭ ‬الزمان‭ ‬كلما‭ ‬رحل‭ ‬أحدكم‭ ‬يرتد‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬لتبقى‭ ‬الأطياف‭ ‬الراحلة‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬التي‭ ‬تشكلت‭ ‬من‭ ‬سماء‭ ‬البحرين‭ ‬وبحرها‭ ‬وعيونها‭ ‬الحلوة‭ ‬وطيبة‭ ‬أهلها،‭ ‬فيتغلب‭ ‬الطيف‭ ‬حينئذ‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬خطف‭ ‬الناس‭ ‬وأرواحهم‭ ‬في‭ ‬دوران‭ ‬العجلة‭ ‬المتسارعة‭! ‬فلم‭ ‬يبق‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬ومع‭ ‬رحيل‭ ‬ذلك‭ ‬الجيل‭ ‬الأجمل‭ ‬إلا‭ ‬رائحة‭ ‬شخوصه،‭ ‬ووجوههم،‭ ‬وقلوبهم‭ ‬الرائعة،‭ ‬التي‭ ‬اتسمت‭ ‬بها‭ ‬البحرين‭ ‬دائماً‭ ‬وبهم‭. ‬

الخالة‭ ‬أمينة‭ ‬رحمك‭ ‬الله،‭ ‬فالذاكرة‭ ‬مليئة‭ ‬بك،‭ ‬وبحكايات‭ ‬الوالدة‭ ‬عنك،‭ ‬تغمدك‭ ‬الله‭ ‬بواسع‭ ‬رحمته‭ ‬وأسكنك‭ ‬جنانه،‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الأبرار‭ ‬والصالحين‭.‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا