لا شكَّ في اعتلاء الفن القصَصي مكانةً مرموقةً على سُلَّم الفنون الأدبيَّة العالميَّة، عدا عن كونهِ يحظى بتاريخٍ يستحق التقدير على أرض الواقع الإبداعي البحريني، من هذا المُنطلَق اختارَ «مُلتقى القصَّة» في البحرين أن تكونَ «تقنيات الكتابة الإبداعيَّة القصصيَّة» على جدول أُمسياته لبرنامج هذا العام، وأن تكونَ نجمة الأُمسية الكاتبة والناقدة البحرينيَّة الدكتورة/ ضِياء الكعبي.
استُهِلَّت الأُمسية التي أدارَتها الأديبة الدكتورة/ جميلة الوطني بالإشارة إلى باقة من مؤهلات د. ضياء عبدالله خميس الكعبي التي منها دكتوراه الفلسفة في اللغة العربيّة وآدابها تخصص النقد الأدبيّ الحديث (السرديات) من كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنيّة، وماجستير في اللغة العربية وآدابها تخصص النقد الأدبيّ الحديث (السرديات) من الجامعة ذاتها، كما أنها أستاذ السرديات والنقد الأدبي الحديث المشارك في جامعة البحرين، ومُدير تحرير مجلَّة «العلوم الإنسانيَّة»، ومن الفائزين بجائزة «الكتاب المُميز» من وزارة الإعلام البحرينيَّة، والمُكرَّمينَ من الأمانة العامَّة لدول مجلس التعاون الخليجي.
شرَعَت الدكتورة ضياء حديثها بالإشارة إلى أنَّ المحاضرة تستهدف إدارة بعض الأفكار المُتعلِّقة بتقنيات الكتابة الإبداعيَّة القصصية، مع مًحاولة ربط الكتابة الإبداعيَّة القصصية بصناعة الابتكار الثقافي، وأكَّدَت: «نحن نعرف أن العالم كله أصبحَ الآن ينظر إلى الثقافة والإبداع في مجالات الآداب والفنون نظرته إلى التعليم والبحث العلمي، بوصفِها جميعًا قطاعاتٍ معرِفيَّة، ذات مردودٍ اقتصادي واستثماري لا تقل أهميَّة عن الاستثمارات الاقتصاديَّة التقليديَّة، وليست مُجرَّد خدماتٍ تُقدَّم للمواطنين. فالصناعاتُ الإبداعيَّة – ومن ضمنها الصِّناعات الثقافيَّة -هي صِناعاتٌ بازغةٌ يتعاظمُ دورها في عمليَّة التنمية الاقتصاديَّة، وذلكَ مع التوجُّهِ نحو الاقتصاد القائمِ على المعرفة، وهي تنتمي إلى قطاعٍ اقتصادي يتعاظمُ في الوقتِ الراهن بسُرعة تحت عنوان: قطاع الاقتصاد الإبداعي».
وأضافَت أنَّ الصناعات الثقافيَّة ناتجة عن تفاعُل أربعة أنواع لرأس المال هي: البشري، الثقافي، الاجتماعي والمؤسَّسي؛ ويؤدي هذا التفاعُل إلى مُخرجات إبداعيَّة تُشكِّل سِلَع وخدمات الصناعة الثقافيَّة التي أصبحَت من أسرع الصّناعات نموًا في العالم، والتحوُّل إلى مُجتمع المعرِفة ينطوي على أبعاد اجتماعيَّة وثقافيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة ومؤسسيَّة. وتتجه الدول العربيَّة الآن نحو مُجتمع المعرفة والاقتصاد القائم على المعرفة بشكلٍ يتفاوت من دولةٍ لأخرى؛ وتجدر الإشارة إلى أنَّ دول مجلس التعاوُن الخليجي تتصدَّر ترتيب الدول العربيَّة وفق مؤشر الاقتصاد المعرفي بحسب تقرير البنك الدولي 2012م وحسب تقرير مؤسسة الفِكر العربي، ومن هُنا يُمكن القول إن القصة القصيرة والرواية من الفنون المُنضوية تحت مظلَّة الاقتصاد المعرفي، فالإنتاج القصصِي والسَّردي والدراما توصف باعتبارها سلعًا إبداعيَّة ثقافيَّة.
أثارت المُحاضرة مجموعة من الأفكار، منها: الكتابة الإبداعيَّة القصصيَّة ودورها في صِناعة الاقتصاد المعرِفي المُستدام، مفاهيم مثل «القصة القصيرة» و«القصة القصيرة جدًا»، القصة القصيرة بوصفها نوعًا أدبيًا، عناصر بنية القصَّة القصيرة، تحليل المضامين، عوالِم السرد، الأنساق الثقافيَّة، رؤية العالم، التناصَّات الثقافيَّة الكُبرى، دور المُتلقّي، مع إشارة إلى نماذج قصصيَّة من الأدب العربي والأدب العالمي.
وفي إطار مُحاولة الإجابة عن سؤال: «ألا يزال ثمَّة مُستقبلٌ للقصَّة القصيرة في ظل هيمنة الرواية؟»؛ ذكرَت الدكتورة رأيًا للمؤلف والمُترجم الإيرلندي «فرانك أوكونور» يقول فيه: «إن الرواية هي صوت المُجتمع، في حين أن القصَّة القصيرة هي صوت الفرد»، ويعني هذا أن الفن الروائي يهتم بقطاعٍ عاديٍ كاملٍ من المُجتمع، ما يجعل من الضروري أن يرسم الروائي الإحساس العالي بالمُجتمع، في حينِ أنَّ الإحساس الذي يُلازم كاتب القصَّة القصيرة هو جلوسهُ وحيدًا يُناجي أشجانهُ الخاصَّة، ويُعبّرُ عن موقفهِ من المُجتمع في قالبٍ قصصي. يترتبُ على هذا أن متن القصَّة القصيرة -من حيث طبيعته لا من حيث قالبه -أقرب الفُنون إلى الشِّعر الغِنائي، وهو ما نلمسهُ أكثر في فن القصة القصيرة جدًا، والجامع بينهما هو الوعي الحاد بالتفرُّد الإنساني. هُناكَ مُصطلَح يستخدمهُ «أوكونور» وهو: «الجماعات المغمورة»، فيقول: «إننا لو وضعنا خريطة العالم أمامنا رصدنا أماكن ازدهار القصة القصيرة؛ لوجدنا أن أمريكا من أماكن هذا الازدهار لأن بها كثيرًا من الجماعات المَغمورة، وذلكَ نتيجةً للتعقيد الاجتماعي البالِغ الذي يدفع بالأفراد والمجاميعِ إلى العُزلة.. جماعات الزُّنوج في الولايات المُتحدة الأمريكيَّة على سبيل المثال، أما إنجلترا فلم تُقدِّم شيئًا ذا بال في مُجتمع القصَّة القصيرة لأن المُجتمع الإنجليزي لا يُتيحُ فُرصةً كبيرة لظهور الجماعات؛ وذلك لاستقراره النسبي».
واستطرَدَت: «الرواية فنٌ تطبيقي، والقصة القصيرة فنٌ خالِص، ليست القصة قصيرة لأنها صغيرة الحجم؛ وإنما هي كذلكَ لأنها عولِجَت علاجًا خاصًا تناولَ موضوعها على أساسٍ رأسي لا أُفُقي، وفجَّرَت طاقات الموقف الواحد بالتركيز على نِقاط التحوُّلِ فيه».
امتازت الأمسية باتساع آفاق الرؤى مُتنقلة بين الأدب المحلي البحريني والأدب العربي والعالمي، ومُناقشة بعض القضايا الجدليَّة المُتعلِّقة بالفن السردي، واختتامها بالردود الوافيَّة على تساؤلات الحاضرين وتعليقاتهم بهذا الشأن، وكانَ من اللافِت حرصُ المُحاضِرة على الغوص في كُتُب الأدب والنقد الإنجليزي من منابعها بقراءة ما نُشِر منها بلُغتهِ الأم دونَ وسيط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك