النمو الاقتصادي مؤشر مهم ومستخدم دوليا لتقييم الأداء الاقتصادي للدولة، ولمقارنة النشاط الاقتصادي بين الدول وكذلك المقارنة بين فترة زمنية وأخرى يُعبر هذا المؤشر عن حيوية النشاط الاقتصادي، كما أنه يحذر من الانكماش والتقلص المحتمل، سواء كان هذا التقلص لأسباب داخلية أم لعوامل خارجية مثل الحروب والنزاعات بين الدول، وخصوصا المجاورة. تشتق من مؤشر النمو الاقتصادي مؤشرات أخرى، مثل نصيب الفرد من الناتج المحلي، الذي يعبر عن العلاقة بين النشاط الاقتصادي وعدد السكان، لكي يؤثر هذا النشاط الاقتصادي في مستوى المعيشة يحتاج إلى سياسات وتوجهات تدفع في هذا الاتجاه.
كُتب الكثير حول هذا المؤشر وضرورة قراءته بما يعكس وظيفته والغاية منه، مثل كتاب «وهم النمو» للكاتب (Pilling) بيلينج، و«قياس ما هو مهم» للكاتب ستيجلتز (Stiglitz) وآخرون. لتسليط الضوء على هذا المؤشر المهم وضرورة قراءته ضمن مؤشرات تعبر عن ازدهار المجتمع ورفع مستوى المعيشة، نناقش ما ورد من توصيف ومحاذير في ورقة صدرت في التسعينيات (1998) للاقتصادي المعروف داني رودريك بعنوان «أين ذهب كل هذا النمو؟».
يعتبر موضوع النمو الاقتصادي وتحليل العوامل المؤثرة فيه محورا أساسيا في الأدبيات والتحاليل والتقارير الاقتصادية التي تصدرها الدول والمنظمات المعنية بالتنمية والأداء الاقتصادي. أولا، إن النمو مرتبط بالنشاط الاقتصادي، وينبغي أن يؤثر النمو في المؤشرات الاجتماعية، مثل ارتفاع مستوى المعيشة، وخلق فرص عمل للمواطنين، ومحاربة الفقر وعدم المساواة لتحقيق الازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي. خلافا لمقولة الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي في 1963 «إن المد يرفع جميع القوارب»، التي شكلت القاعدة الفكرية لتيار النيوليبرالية. يجادل العديد من الاقتصاديين بأن تأثير النمو على المؤشرات الاجتماعية لا يحدث تلقائيا، بل يحتاج إلى محفزات وسياسات ضمان اجتماعي ودعم توجيه المكاسب نحو فئات المجتمع الضعيفة وذات الدخل المحدود. لذلك لا بد أن يُقرأ مؤشر الناتج المحلي بالتزامن مع المؤشرات الاجتماعية التي تعبر عن جودة الحياة لكي يتضح مردود النمو في مدى رفاهية الفرد وتقدم المجتمع، كما يشير الى ذلك (Robert Costanza) وآخرون في كتابهم «ما بعد الناتج المحلي (2009)».
تورد الأدبيات العديد من الأمثلة، حول حالات من الانكماش، بدءا من الكساد الكبيرة في 1929 الذي كان شرارة اندلاع الحرب العالمية الثانية، إلى الأزمات المالية في الثمانينيات التي أعقبت نجاح الرئيس ريجان ومارجرت ثاتشر في تكريس منطق حرية السوق الرأسمالية، (الليبرالية الجديدة) وما تبعها من هيمنة رأس المال على السرديات التي شكلت مفاهيم غير سليمة. كذلك شهدت اقتصادات شرق آسيا انكماشا في 1997، وتلتها أزمة 2008 إلى 2010، التي انهار فيها عدد من البنوك العريقة في أمريكا، وشهدت أوروبا انكماشا وأزمات حادة، وخصوصا في اليونان وإسبانيا والبرتغال. ومؤخرا، كان لجائحة كورونا (2020-2021) تأثير كبير على الاقتصاد العالمي بشكل عام. جميع هذه الحالات لم يتمكن الناتج المحلي الاجمالي من التنبؤ بها أو التحذير منها، والسبب أنه مؤشر يعبر عن ناتج نهائي (Lagging Indicator) يخبر عما مضى من أداء ولا يفيد في تقدير مدى سلامة الهياكل الإنتاجية والمنظومة الإدارية التي أنتجته.
لتجنب الانكماش الاقتصادي وتعزيز النمو المستدام، تقدم ورقة داني رودريك بعض الاستراتيجيات، من بينها، تحسين إدارة الأزمات، وتعزيز التماسك الاجتماعي وتكريس العدالة الاجتماعية المؤدية إلى رفع مستوى المعيشة ومحاربة الفقر وعدم المساواة، والاهتمام بالتنوع الاقتصادي والبيئة الاستثمارية والريادية، ومتطلبات تعزيز القدرات الابتكارية والتوازن المالي. يسهم في حماية الدولة من هذه التقلبات بناء القدرات والمؤسسات ووضع المنظومات الإدارية الداعمة والمكرسة لذلك، فيما يتعلق بالتنويع الاقتصادي، نجد أن معظم الدول تسعى لوضع استراتيجيات وتسخير الموارد له، ودول الخليج بشكل عام والبحرين بشكل خاص تعمل على زيادة التنويع وتقليل الاعتماد على الموارد الطبيعية.
غير أنه من المهم اتباع سياسة اقتصادية تحقق توازنا بين الانفتاح الاقتصادي (الاقتصاد الحر) والحماية للصناعات والشركات الناشئة. اتبعت دول شرق آسيا هذا النوع من التوازن وتوفير الحماية في السبعينيات والثمانينيات، وشكلت هذه السياسات الزاوية الأساسية في المعجزة الاقتصادية لها (البنك الدولي 1993 المعجزة الآسيوية-النمو الاقتصادي والسياسة العامة) تبرز الدراسة دور الدولة القيادي في التنمية. كما نادى بها العديد من الاقتصاديين الغربيين، مثل جوزيف ستجلتز الحائز جائزة نوبل عن كتابه «مساعدة الاقتصادات الناشئة للنمو». ويرى داني رودريك أن كلا من الانفتاح والحماية لهما محاذيرهما، التي يجب التحوط لها.
تسلط ورقة داني رودريك «أين ذهب كل هذا النمو؟»، الضوء على العوامل الاجتماعية والسياسية المعقدة التي تؤثر في النمو الاقتصادي. فمن خلال فهم كيفية تأثير الصدمات الخارجية والاختلافات الاجتماعية على النمو، يمكن للبلدان وضع سياسات تعافٍ اقتصادي واجتماعي تركز على العدالة الاجتماعية، والتنوع الاقتصادي، وإدارة الأزمات والاختلافات، وتقلل الفوارق الكبيرة في الدخل بين المواطنين، هذه السياسات هي المفتاح والضمان لجعل النمو الاقتصادي هدفا طويل الأجل، ومقدمة لتحقيق نمو شامل ومستدام كمسار نحو مستقبل أفضل، وإقرار هذه السياسات وتنفيذها يعتمد على تبني قاعدة فكرية وبيئة مؤسسية توجه عملية اتخاذ قرارات التنمية نحو تعميم الازدهار وتقدم المجتمع ضمن الحالة الثقافية المجتمعية التي تشارك وتحفز على اتخاذ مثل هذه السياسات.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك