مرة أخرى تعود إلى شقتها في مدينة ديترويت في ولاية ميشيغان الأمريكية، لكن هذه المرة وحيدة منكسرة.
كانت رغبتها في البكاء تزداد كلما داهمتها ذكريات الماضي الجميل.
لأول وهلة شعرت بأنها غريبة عن المكان ولا يربطها به سوى أمنيات ربما لن تتحقق مطلقا فرحلة الأموات رحلة مجانية تأخذنا بعيدا إلى عوالم أخرى.
رحلة لا عودة منها.
وكم حاولت التشبث بفكرة أن كل ما جرى كان حلما أو كابوسا أو أي شيء آخر إلا فكرة الموت نفسها.
تأوهت كثيرا، تساقطت دموعها كأمطار الشتاء لكن كل ذلك لن يعيد إليها ابنها الذي فقدته في غفلة من الزمن.
كل شيء في هذا العالم القبيح يمكن إصلاحه قالت في سرها الجروح تلتئم، الغائب يعود وحتى الخسارات يمكن تعويضها، لكن فقد الابن الذي هزمه الموت رغما عنه وجعله ذكرى تداعب مخيلتها بحرقة وألم.
في تلك الليلة الموحشة لم تسعفها روحها المرتعشة في مقاومة الفاجعة التي حلت بها.
فالمصائب تداهمها تترى، فمِن فقد عائلتها بحادث انفجار سيارة مفخخة في شوارع بغداد المليئة بمشاهد الدمار مرورا بغربة المنفى مرورا بفقد ابنها الوحيد.
على كرسيه الهزاز هوت بحزنها قبل جسدها في محاولة منها لاسترجاع ذكرياتها المكلومة.
مالت برأسها، أغمضت عينيها، عادت بها الذاكرة إلى مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف حينما دفنت ولدها الوحيد.
يومها افترشت رمال المقبرة وهي تناجي قبر ولدها بمرارة الفقد.
وكم حسدت القبور المجاورة لقبر ولدها وكم تمنت لو كان باستطاعتها أن تتوسد قبرا من تلك القبور لتكون بالقرب من ابنها على سبيل الاطمئنان.
في بداية هجرتها إلى مدينة ديترويت استطاعت أن تقهر غربة المهجر بمساعدة ولدها الذي منحها الأمان، لقد ساعدها في قهر الصعاب، لكن بعد رحيله من سوف يساعدها في هزيمة غربة المهجر وغربة الحزن.
غربتان مظلمتان أطبقتا على حياتها كالليل البهيم في شتاء طويل.
في تلك الليلة الموحشة تكلم كل شيء في شقتها، رفعت رأسها لتراقب حركة الأشياء من حولها.
قالت كرة اتخذت من زاوية الغرفة مكانا لها، كان لي لاعبا ماهرا يداعبني بشغف المحبين بأقدام من ذهب.
قال الكلب، كان لي رفيقا يأخذني في كل صباح إلى متنزه المدينة.
قالت النافذة كان ثمة عاشق يجلس بالقرب مني ويحرص على كتابة قصيدة لفتاة أحلامه.
قالت سورة من القرآن، كان لي قارئا يقضي الليل بطوله خاشعا متهجدا، قارئا يمتلك صوتا بعذوبة أنهار الجنة.
قالت الأم والدموع تغالبها، كان لي سندا في هذه الدنيا، تركني وحيدة أقاوم غربتي المهجر والحزن.
كان لي ابنا يملأ بفيض المحبة كل حياتي.
كان لي ابنا ينير دروبي المظلمة بنوره السرمدي.
{ شاعر وروائي من العراق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك