بقلم: ميدا بنجامين
في مقال رأي رائع نُشر في صحيفة نيويورك تايمز، أوضح تريتا بارسي من معهد كوينسي كيف أن الصين تمكنت من تحقيق عدة مكاسب دبلوماسية وسياسية على حساب الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط.
جاء مقال تريتا بارسي تحت عنوان: «الولايات المتحدة ليست صانع سلام لا غنى عنه» في إشارة إلى تلك العبارة التي كانت قد استخدمتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت حيث اعتبرت آنذاك أن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل «أمة لا غنى عنها» في وصف للدور المحوري الذي تلعبه في عالم ما بعد الحرب الباردة.
وفي الحقيقة، وعلى عكس تريتا بارسي، فإن مادلين أولبرايت قد استخدمت تلك العبارة في إشارة إلى دور الولايات المتحدة الأمريكية في صنع الحرب الأمريكية أكثر من صنع السلام. في عام 1998 قامت مادلين أولبرايت بجولة في الشرق الأوسط ثم في داخل الولايات المتحدة الأمريكية من أجل حشد الدعم لتهديد الرئيس كلينتون بقصف العراق.
وبعد أن فشلت مادلين أولبرايت في الحصول على الدعم المطلوب في منطقة الشرق الأوسط، واجهت أسئلة مقلقة وحرجة خلال حديث متلفز في جامعة ولاية أوهايو كما ظهرت في برنامج Today Show في صباح اليوم التالي للرد على الأصوات المعارضة.
لقد قالت مادلين أولبرايت يومها: «.. إذا كان علينا استخدام القوة، فذلك لأننا أمريكا؛ نحن الأمة التي لا غنى عنها. نحن نقف شامخين ونرى المستقبل أكثر من البلدان الأخرى، ونرى هنا الخطر الداهم الذي يتهددنا جميعًا. أنا أعلم أن الرجال والنساء الأمريكيين في الزي العسكري مستعدون دائمًا للتضحية من أجل الحرية والديمقراطية وأسلوب الحياة الأمريكي».
كانت مادلين أولبرايت، التي تعتبر أن تضحيات القوات الأمريكية أمر مفروغ منه، قد أوقعت نفسها بالفعل في المشاكل عندما سألت الجنرال كولن باول قائلة: «ما فائدة وجود هذا الجيش الرائع الذي تتحدث عنه دائمًا إذا لم نتمكن من استخدامه؟» كتب باول يقول في مذكراته في معرض حديثه عن ذلك الموقف قائلا: «ظننت أنني سأصاب بتمدد الأوعية الدموية».
لكن كولن باول نفسه قد رضخ لاحقًا للمحافظين الجدد، أو «المجانين الملعونين» كما وصفهم على انفراد، وقرأ بأمانة الأكاذيب التي اختلقوها في محاولة لتبرير الغزو غير المشروع للعراق أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الجلسة الشهيرة التي عقدت في شهر فبراير من سنة 2003.
على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، خضعت إدارات كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري لـ«المجانين» في كل منعطف من المنعطفات والتحولات الأخيرة. إن الخطاب الاستثنائي لمادلين أولبرايت والمحافظين الجدد، الذي أصبح الآن أسلوبًا قياسيًا عبر الطيف السياسي الأمريكي، يقود الولايات المتحدة إلى صراعات في جميع أنحاء العالم، بطريقة مانوية لا لبس فيها تحدد الجانب الذي تدعمه باعتباره جانب الخير فيما يمثل الآخر جانب الشر، ما يعوق أي فرصة للولايات المتحدة في أن تلعب لاحقًا دور الوسيط المحايد أو ذي المصداقية.
ينطبق الأمر على الشيكات على بياض التي ظلت تمنحها الولايات المتحدة الأمريكية على مدى العقود الماضية كي تشن العدوان تلو الآخر على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وهو ما يحكم على جهود الوساطة بالفشل.
لكن بالنسبة إلى الصين، فإن سياسة الحياد التي تنتهجها هي بالضبط التي مكنتها من تعزيز دورها السياسي والدبلوماسي في الشرق الأوسط، وهو ما ينطبق أيضا على مفاوضات السلام الناجحة للاتحاد الأفريقي في إثيوبيا، وعلى وساطة تركيا بين روسيا وأوكرانيا. لعل تركيا كانت ستنجح فعلا في إنهاء الحرب في أوكرانيا في أول شهرين لها، لولا إصرار الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على الاستمرار في الضغط على روسيا وإضعافها.
لكن الحياد أصبح لعنة بالنسبة إلى صانعي السياسة في الولايات المتحدة. أصبح تهديد جورج دبليو بوش: «أنت معنا، أو أنت مع الإرهابيين» افتراضًا أساسيًا راسخًا، وإن لم يكن معلنًا، في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين.
كان رد فعل الرأي العام الأمريكي على التنافر المعرفي ما بين افتراضاتنا الخاطئة حول العالم والعالم الحقيقي الذي يستمرون في الاصطدام معه هو الانطواء إلى الداخل واعتناق روح الفردية والغرق في الحمائية.
يمكن أن يتراوح هذا من فك الارتباط الروحي في العصر الجديد إلى الموقف الشوفيني الذي يتجسد في شعار «أمريكا أولاً». مهما كان الشكل الذي يتخذه بالنسبة إلى كل واحد منا، فإنه يسمح لنا بإقناع أنفسنا بأن قعقعة القنابل البعيدة، وإن كانت في الغالب أمريكية، فهي ليست مشكلتنا.
لقد أثبتت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية مدى جهلنا بالعالم بل وزادت على ذلك من خلال الحد بشكل كبير من التغطية الإخبارية الأجنبية وتحويل الأخبار التلفزيونية إلى غرفة صدى مدفوعة بالربح يسكنها النقاد في الاستوديوهات الذين يبدو أنهم يعرفون القليل عن العالم أكثر منا.
يرتقي معظم السياسيين الأمريكيين الآن من خلال نظام الرشوة القانونية من السياسة المحلية إلى السياسة الحكومية وصولا إلى السياسة الوطنية، كما أنهم يصلون إلى واشنطن وهم لا يعرفون شيئًا عن السياسة الخارجية.
هذا يتركهم ضعفاء مثل الرأي العام الأمريكي أمام كليشيهات المحافظين الجدد مثل الاعتبارات العشر أو الاثني عشر التي استخدمتها مادلين أولبرايت لتبرير قصف العراق: - الحرية، الديمقراطية، أسلوب الحياة الأمريكي، الوقوف شامخين، الخطر الذي يتهددنا جميعًا، نحن أمريكا، أمة لا غنى عنه، تضحية، رجال ونساء أمريكيون يرتدون الزي العسكري، و«علينا استخدام القوة».
في مواجهة مثل هذا الجدار الصلب القائم على كم هائل الهراء القومي، ترك الجمهوريون والديمقراطيون على حدٍ سواء السياسة الخارجية في أيدي المحافظين الجدد ذوي الخبرة والروح العدوانية، والذين جلبوا للعالم فقط الفوضى والعنف على مدى خمسة وعشرين سنة.
يتماهى جميع أعضاء الكونغرس، باستثناء أكثر أعضاء الكونجرس تقدميًة، مع سياسات تتعارض تمامًا مع العالم الحقيقي لدرجة أنها قد تتسبب في تدميره، سواء عن طريق الحروب المتصاعدة باستمرار أو عن طريق التقاعس عن اتخاذ إجراءات انتحارية بشأن أزمة المناخ وغيرها في التعامل مع العالم الواقعي والمشاكل التي يجب أن نتعاون مع الدول الأخرى لحلها إذا أردنا البقاء على قيد الحياة.
لا عجب أن يذهب في اعتقاد الأمريكيين اليوم أن مشاكل العالم غير قابلة للحل وأن السلام بعيد المنال، لأن بلدنا قد أساء استغلال اللحظة أحادية القطب الخاصة به في الهيمنة العالمية لإقناعنا بأن هذا هو الحال.
لكن هذه السياسات تمثل في الحقيقة خيارات يمكن إعادة النظر فيها، إذ أنه يوجد في العالم بدائل أخرى وهو ما تظهره الصين ودول أخرى بشكل كبير. يقترح رئيس البرازيل لولا دا سيلفا تشكيل «نادي سلام» لدول صنع السلام للتوسط لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وهذا يوفر أملاً جديداً للسلام.
خلال حملته الانتخابية والسنة الأولى في منصبه، وعد الرئيس جو بايدن مرارًا وتكرارًا ببدء حقبة جديدة من الدبلوماسية الأمريكية، بعد عقود من الحرب والإنفاق العسكري القياسي والمفرط.
كتب زاك فيرتين، وهو الآن كبير مستشاري سفيرة الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد، في عام 2020 قائلا: إن جهود جو بايدن «لإعادة بناء وزارة الخارجية المنهارة» يجب أن تشمل إنشاء «وحدة دعم للوساطة.. يعمل بها خبراء تتمثل مهمتهم الوحيدة في تقوية وتعزيز دبلوماسيينا، على أن تكون لديهم الأدوات التي يحتاجونها للنجاح في صنع السلام».
تم الكشف أخيرًا عن استجابة جو بايدن الهزيلة لهذه الدعوة من زاك فيرتين نفسه وآخرين في مارس 2022، بعد أن رفض المبادرات الدبلوماسية التي كانت قد تقدمت بها روسيا والتي أقدمت في نهاية المطاف على غزو أوكرانيا المجاورة.
تتكون وحدة دعم المفاوضات الجديدة بوزارة الخارجية من ثلاثة موظفين مبتدئين مقيمين في مكتب عمليات الصراع وتحقيق الاستقرار. هذا هو أبعد مدى وصل إليه التزام جو بايدن الرمزي بصنع السلام في العالم المثخن بالحروب والصراعات.
كتب زاك فيرتين يقول: «غالبًا ما يُفترض أن الوساطة والتفاوض هي مهارات متاحة بسهولة لأي شخص منخرط في السياسة أو الدبلوماسية، وخاصة الدبلوماسيين المخضرمين وكبار المسؤولين والخبراء المعينين من قبل الحكومة. ولكن هذا ليس هو الحال: الوساطة المهنية هي متخصصة، وغالبًا ما تكون تقنية للغاية».
إن الطابع التدميري الشامل للحرب يمثل أيضا جانبا متخصصا وتقنيا أيضًا، ناهيك أن الولايات المتحدة الأمريكية تستثمر الآن ما يقرب من تريليون دولار سنويًا في اقتصاد الحرب والسلاح. إن تعيين ثلاثة موظفين صغار في وزارة الخارجية لمحاولة إحلال السلام في عالم تتهدده آلة الحرب التي تبلغ تكلفتها تريليون دولار في بلادهم يؤكد مجددًا أن السلام ليس أولوية بالنسبة إلى الإدارات الأمريكية.
على النقيض من ذلك، أنشأ الاتحاد الأوروبي فريق دعم الوساطة في عام 2009 ولديه الآن 20 عضوًا في الفريق يعملون مع فرق أخرى من دول الاتحاد الأوروبي الفردية. يعمل لدى إدارة الشؤون السياسية وبناء السلام التابعة للأمم المتحدة 4500 موظف منتشرون في جميع أنحاء العالم.
إن مأساة الدبلوماسية الأمريكية اليوم هي أنها دبلوماسية حرب أكثر منها دبلوماسية سلام. إن الأولويات القصوى لوزارة الخارجية ليست صنع السلام، ولا حتى الفوز في الحروب فعلاً، وهو ما فشلت الولايات المتحدة الأمريكية على أي حال في القيام به منذ عام 1945، بصرف النظر عن استعادة البؤر الاستيطانية الجديدة الصغيرة في غرينادا وبنما على سبيل المثال لا الحصر.
وتتمثل الأولويات الفعلية للولايات المتحدة الأمريكية في التنمر على الدول الأخرى للانضمام إلى تحالفات الحرب التي تقودها واشنطن وشراء الأسلحة الأمريكية، وإسكات الدعوات من أجل السلام في المحافل الدولية، وفرض عقوبات قسرية غير قانونية وقاتلة، والتلاعب بالدول الأخرى للتضحية بشعوبها في الحروب بالوكالة الأمريكية.
والنتيجة هي الاستمرار في نشر العنف والفوضى في جميع أنحاء العالم. إذا أردنا منع حكامنا من دفعنا نحو الحرب النووية، والكارثة المناخية، والانقراض الجماعي، فمن الأفضل أن نزيل غماماتنا ونبدأ في الإصرار على سياسات تعكس أفضل غرائزنا ومصالحنا المشتركة، بدلاً من مصالح دعاة الحرب وتجار الموت الذين ينتفعون من الحرب.
كومونز
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك