بقلم: توماس فسكوفي {
لقد جاءت العملية التي نفذتها حركة حماس لتعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة وتذكرنا أن الواقع المرير الذي فرض نفسه على الأرض يحول دون تحقيق السلام والأمن الدائمين.
قبل هجوم حماس على إسرائيل في السابع من شهر أكتوبر 2023، لم تكن هناك مفاوضات أو «عمليات سلام» بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وإذا كانت اتفاقيات أوسلو، التي تم التوقيع عليها قبل ثلاثين عاماً، قد أعطت الانطباع بأنها ستسهم في تحقيق التقارب بين مصالح الطرفين، غير أنها لم تؤد إلا إلى تعزيز الاستعمار والاحتلال وتوسيع رقعة الاستيطان.
وقبل شهر من اندلاع هذه الحرب الجديدة، كشف استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن ما يقرب من ثلثي الفلسطينيين يعتبرون وضعهم الحالي أسوأ مما كان عليه قبل إبرام اتفاقيات أوسلو في سنة 1993. لكن من وجهة النظر الإسرائيلية فإن «عملية السلام» وتدهورها لا يبدوان بالضرورة فاشلين لأن إسرائيل حققت الكثير من أهدافها بفضل اتفاقيات أوسلو.
أوضحت الصحفية أميرة هاس في مقال منشور في صحيفة هآرتس أن إنشاء الجيوب أو الكانتونات الفلسطينية يشكل «نتيجة تسوية داخلية داخل المؤسسة الإسرائيلية»، وقد أدت إلى إعادة تحديد ملامح الاحتلال من أجل اختفاء الفلسطينيين سياسيا ومحوهم من المشهد الإسرائيلي من دون الاضطرار إلى طردهم، أو حتى من دون ضم الضفة الغربية رسميًا. ذلك ما مكّن من إيجاد توافق في إسرائيل بين مؤيدي التفاوض ومعارضيه.
ولذلك فإن احتمال قيام دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة لم يكن على الإطلاق على جدول الأعمال. بالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها ياسر عرفات. كان التخلي عن مطلب التحرير الكامل لفلسطين لصالح دولة يتم تقليص مساحتها إلى 22% فقط من الأراضي المخصصة بموجب خطة التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1947 بمثابة تنازل تاريخي. أما بالنسبة إلى إسرائيل، على العكس من ذلك، فلا يزال كل شيء بحاجة إلى «التفاوض»، تحت رعاية الحكم أو الوسيط الأمريكي المنحاز وغير النزيه.
وفي استطلاع آخر للرأي أجري في بداية سنة 2023، أكد المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن دعم حل الدولتين لم يكن بهذا الانخفاض في كلا المجتمعين. وعلى الجانب الفلسطيني دافع 33% من المستطلعين عن هذا المشروع مقارنة بـ43% في عام 2020. وعلى الجانب الإسرائيلي أيده 39% (34% بين اليهود وحدهم).
يجب وضع هذه المعطيات في منظورها وسياقها وإطارها الصحيح في تفسيرها: فالفلسطينيون لا يبتعدون عن هذا الحل – أي حل الدولتين - لأنهم لم يعودوا يريدونه، بل لأنهم يعتبرونه الآن غير قابل للتحقيق.
فضلاً عن ذلك، فإن الحلول البديلة لا تستفيد من أي استفتاء، ذلك أن الدولة الديمقراطية التي تتمتع بحقوق متساوية للإسرائيليين والفلسطينيين لا تحظى بتأييد سوى 20% من الإسرائيليين، في حين يعتقد 23% من الإسرائيليين أن ذلك ممكن.
خلال ثلاثين عاماً، هناك أربع ظواهر على الأقل تفسر لماذا توقف السكان الفلسطينيون عن الإيمان بحل الدولتين، وتخلوا عن أي أمل في الحصول على السيادة. أولا، لم يظهر استعمار الأراضي المحتلة أبدا أدنى علامة على أنه يتباطأ، كما تعزز الترابط بين المجتمعين.
وإذا كان الفلسطينيون يعتمدون على الاقتصاد الإسرائيلي، فإن الأراضي المحتلة تشكل أرضاً «اختبارية» للمجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي. وهو يشكل أيضاً مكاسب مالية كبيرة للرأسمالية القائمة على الأرض، والتي تمارس المضاربة كما تشاء على الموارد المسروقة من السكان الفلسطينيين المحليين.
ثانيًا، السلطة الفلسطينية التي من المفترض أن تلعب دور الدولة قيد التكوين وجدت نفسها في كثير من الأحيان تلعب دور المساعدة للاحتلال بسبب تنسيقها الأمني مع القوات الإسرائيلية في سياق الانجراف الاستبدادي لرئاسة السيد محمود عباس.
وقد ازداد وضع السلطة الفلسطينية صعوبة في مواجهة الخطط والسياسات الاستيطانية لحكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو.
أما النجاحات الدبلوماسية التي حققتها السلطة الفلسطينية - قبول دولة فلسطين في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في عام 2011، ودخولها في الأمم المتحدة كمراقب في عام 2012، ثم الاعتراف بها رسميًا كدولة الدولة الطرف، أمام المحكمة الجنائية الدولية في عام 2015، فإنها لم تغير أي شيء على أرض الواقع.
ثالثاً، لا شك أن تفتيت الفلسطينيين في جيوب أو كانتونات معزولة في الضفة الغربية المحتلة، وفصلها عن قطاع غزة، يضاف إليها انقسام قيادتها، ما بين الضفة والقطاع.
في اليوم التالي لهجوم حماس أمر وزير الدفاع الإسرائيلي، السيد يوآف غالانت، بقطع الكهرباء وإمدادات المياه والغذاء عن قطاع غزة المحاصر برا وبحرا وجوا.
أدى ذلك إلى تفاقم الصعوبات التي يواجهها السكان الذين يصل معدل البطالة بين من هم دون 29 عاما إلى 75%، في حين يعتمد 80% من سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة على المساعدات الإنسانية الخارجية.
وأخيراً فإن «عملية السلام»، التي كان من المفترض أن تؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة، سمحت في الأساس للقادة الإسرائيليين بشراء الوقت لتعزيز قبضتهم على الأراضي المحتلة وتوسيع رقعة الاستيطان.
وفوق كل شيء، فإن الدول الملتزمة بدعم اتفاقات أوسلو مالياً ودبلوماسياً رفضت دائماً النظر إلى هذه الاتفاقيات على أنها صراع بين «دولتين مؤسستين»، لتجنب فرض عقوبات ضد الطرف الذي ينتهك القانون الدولي – أي إسرائيل.
إن النظر إلى إسرائيل على حقيقتها، أي القوة الاستعمارية التي لم تحترم قط أدنى قرار للأمم المتحدة منذ إنشائها، يعني ضمناً ممارسة ضغوط كافية لإجبار قادتها على اعتبار حقوق الفلسطينيين قضية حيوية لاستدامة دولتهم.
داخل البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، يدافع ما لا يقل عن مائة نائب من أصل مائة وعشرين عن استمرار الاستعمار الاستيطاني، أو حتى، بالنسبة إلى الأغلبية، ضم الضفة الغربية بأكملها أو جزء منها.
وبشكل عام، بما في ذلك إسرائيل والأراضي الفلسطينية، يبلغ عدد السكان العرب واليهود 7.1 و7 ملايين على التوالي. وفي هذه المنطقة نفسها، لا يوجد سوى حدود حقيقية واحدة (تديرها السلطات الإسرائيلية)، في حين يهيمن الشيكل على التجارة.
وإذا كانت العناصر المادية والمؤسسية تهدف إلى الفصل بين هؤلاء السكان، فإن الواقع يظل كما يلي: في الواقع، هناك دولة واحدة موجودة بالفعل.
أما الجدار الذي أقامته إسرائيل فإنه يتبع فقط خط الفصل المعمول به في عام 1967 «الخط الأخضر» على ما يزيد على 20% من مساره، وبالتالي لا يمكن أن يلعب دور الحدود الافتراضية: 10% من الضفة الغربية تقع على هذا النحو على الجانب الإسرائيلي.
بالإضافة إلى ذلك، يقيم ما يقرب من 700.000 مواطن إسرائيلي يهودي في المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ويتقاسمون أماكن معينة من الحياة اليومية مع السكان الفلسطينيين، والمتاجر والطرق على وجه الخصوص. ويدخل كل يوم نحو 150 ألف فلسطيني من الضفة الغربية و17 ألفا من سكان غزة إلى إسرائيل للعمل.
وفي الواقع، تنظم المؤسسات والبرلمان الإسرائيلي كل أو جزء من الحياة اليومية لجميع سكانها، وكذلك حياة الأراضي المحتلة. مع هذا الفارق أن سكان الأراضي المحتلة، الذين يزيد عددهم على خمسة ملايين نسمة، ليس لديهم إمكانية التصرف بناء على القرارات التي اتخذتها تل أبيب.
إنهم يخضعون في نفس المجال لقوانين ومحاكم مختلفة، اعتمادًا على مكان إقامتهم وانتمائهم الوطني، في حين أن السكان اليهود وحدهم يستفيدون من كامل حقوقهم، التي أصبحت بالتالي امتيازات.
وعلى هذا الأساس تصف العديد من المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية والفلسطينية والدولية نظام تل أبيب بنظام الفصل العنصري.
وفي هذه الدولة الفريدة، لا يستفيد الفلسطينيون من أي حماية ضد قرارات جيش الاحتلال وانتهاكات المستوطنين، مما يؤجج الرغبة في المقاومة المسلحة لدى جزء من الشباب الفلسطيني: ويتجلى ذلك في الظهور الأخير لما يسمى «أسود» جنين أو نابلس.
لقد اعتاد المجتمع الإسرائيلي على هذا الوضع الذي اعتبره وضعاً قائماً، حيث أتاحت السياسات التي تم وضعها بعد الانتفاضة الثانية (2000-2005) جعل الفلسطينيين غير مرئيين. لقد سلط حريق 7 أكتوبر الضوء على شعب يخنقه القمع ولا يستفيد من أي منظور سياسي.
لقد فتح الابتعاد عن دولة فلسطينية مستقلة حقًا الطريق أمام المبادرات داخل المجتمعين للتفكير في نهج جديد.
على سبيل المثال، تدعو منظمة الأرض للجميع منذ عام 2012 إلى حل كونفدرالي وحل الدولتين يضمن الديمقراطية وحرية التنقل والاستيطان، والسيادة المشتركة للشعبين، وخاصة على القدس والموارد الطبيعية، والمساواة في الوصول إلى العدالة أو الأمن.
ولنذكر أيضًا حملة الدولة الديمقراطية الواحدة، التي انطلقت عام 2018 من مدينة حيفا العربية اليهودية الإسرائيلية حول برنامج من عشر نقاط يهدف إلى تشكيل أساس لمشروع سياسي مشترك بين المجتمعين.
ليس هناك شك في أن هذه الهياكل المسلحة ستستمر، ولكن من المرجح أن تنهار قدرتها على التأثير في ضوء الصدمة التي سببها هجوم 7 أكتوبر داخل المجتمع الإسرائيلي.
وللعلم، فقد احتشدت المعارضة الشعبية لمشروع نتنياهو الإصلاحي القضائي مدة أربعين أسبوعا دون أن تتمكن الكتلة المعادية للاستعمار من جعل المتظاهرين يفهمون أن مصير الفلسطينيين يجب أن يكون الأولوية وأنه لا يمكن لأي ديمقراطية أن تتعايش مع الفصل العنصري والاحتلال.
منذ يوم 7 أكتوبر، دعت الطبقة السياسية الإسرائيلية بأكملها، باستثناء اليسار المناهض للاستعمار وبعض المثقفين إلى شن عملية واسعة النطاق من أجل «كسب الحرب» ضد حماس.
إذا كان القضاء على منظمة كاملة العضوية في الحركة الوطنية الفلسطينية أمرا ممكنا وإن كان صعبا، فإن المرء يتساءل عما سيفعله نتنياهو إذا بقي في السلطة.
وإذا رحل بنيامين نتنياهو، فهل تتمكن حكومة خليفته من تحديد نهج آخر في التعامل مع القضية الفلسطينية من خلال ضمان الحقوق الفردية والجماعية المتساوية لجميع المواطنين الذين يعيشون بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن مهما كان أصلهم ودينهم؟
{ باحث مختص في شؤون إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة.
لوموند دبلوماتيك
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك