بقلم: نيكولا بافاريز
قبل خمسين سنة من الآن صدر كتاب بعنوان «متى تستيقظ الصين... العالم سيرتجف» لمؤلفه الفرنسي آلان بيرفيت. صدر ذلك الكتاب في أعقاب الثورة الثقافية حيث كانت الصين لا تزال تعد دولة فقيرة وغارقة في كثير من المشاكل وتواجه كثيرا من التحديات. رغم مرور خمسة عقود على صدور هذا الكتاب فإنه يعمق فهم القارئ لما يحدث اليوم في العالم، بما في ذلك تبني سلطات بكين لمبادئ الاقتصاد المعولم وتنامي قوة الصين ونفوذها في العالم.
يسمح لنا هذا الكتاب التنبؤي بفهم أفضل لما هو على المحك اليوم، وخاصة ديكتاتورية الدولة التي دخلت الرأسمالية المعولمة.
لقد تنبأ المؤلف منذ ذلك الوقت بأن مصير القرن الحادي والعشرين سيتمحور حول تطور الصين التي باتت اليوم تتنافس مع الولايات المتحدة على قيادة العالم وتصدر الاقتصاد، وسط توقعات بأن الصين ستتجاوز بلاد العم سام وتسود العالم.
حقق الكتاب منذ صدوره نجاحًا باهرا علما بأن مؤلفه استند إلى نتائج مهمة دراسية قام بها في صائفة عام 1971، حيث سافر أعضاء البعثة إلى 6 مقاطعات من أصل 18 مقاطعة في الصين وأجروا عديدا من المقابلات مع القادة، في مقدمتها رئيس الوزراء الصيني في ذلك الوقت شواين لاي، بالإضافة إلى كبار المسؤولين، والمعلمين والعلماء والأطباء والمهندسين والفنانين وغيرهم..
لقد أجرى آلان بيرفيت تحقيقه في قلب الصين الماوية عند نقطة تحول في التاريخ. كانت الصين قد خرجت لتوها من الثورة الثقافية، التي أطلقها دازيباو بقيادة ماو تسي تونج في 5 يونيو 1966 ما تسبب في الإغلاق الكامل للبلاد مدة خمس سنوات.
أما بالنسبة إلى بقية العالم فقد كان الأمر غامضًا تماما، حيث كانت تلك التطورات تختبئ خلف جدار أيديولوجي في البلاد.
لقد شكلت تلك الثورة الثقافية مفارقة مزدوجة تاريخيا وسياسيا من خلال تطبيق الثورة الأكثر راديكالية على الإطلاق في أقدم الحضارات. أما على الصعيد الاقتصادي والتكنولوجي فقد كان التزاوج قائما ما بين فقر الشعب من ناحية، وامتلاك الأسلحة النووية والوصول إلى الفضاء من ناحية أخرى.
يظل كتاب آلان بيرفيت يمثل شهادة استثنائية للصين في أعقاب الصدمة غير المسبوقة التي تمثلت في الثورة الثقافية، والتي تهدف إلى إحداث قطيعة جذرية غير مسبوقة مع الماضي، وكسر أي شكل من أشكال الطبقية أو التسلسل الهرمي، وخلق رجل جديد صممه الفكر الماوي وحده، غير أن ذلك قد أدى إلى تحطيم الأفراد والمجتمع على حد سواء.
تكمن أهمية الكتاب في أنه يتيح لنا حتى اليوم فهم الصين بشكل أفضل في القرن الحادي والعشرين، حيث انخرطت في مواجهة عالمية مع الولايات المتحدة لقيادة العالم.
ومثلما وجد أليكسيس دي توكفيل جوهر الديمقراطية في ظل الولايات المتحدة الأمريكية، فقد سلط آلان بيرفيت في كتابه الضوء في إطار المشروع الثوري للصين الماوية طبيعة الحكم الشمولي وتنامي الفكر القومي.
تكمن أهمية تحليل آلان بيرفيت في الصورة التي يرسمها للصين وهي تتعافى من الثورة الثقافية، ولكن أيضًا في موضوعية نظرته. وفي حين أن الماوية قد أطلقت في أعقاب عام 1968 العنان للمشاعر الأيديولوجية في الغرب، وخاصة في فرنسا، فإن نظرتها إلى الصين لا تزال واقعية وموضوعية.
في عهد ماوتسي تونغ كان الكتاب الأحمر الصغير موجودا في كل مكان ويتخلل الحياة اليومية للصينيين. كانت الصين التي زارها آلان بيرفيت في ظل الثورة الثقافية لا تزال أيضا تواجه تحديات كبيرة، في ظل الصراعات على السلطة والسعي إلى تطهير مختلف المواقع.
بالكاد كانت الجامعات ومراكز الأبحاث تفتح أبوابها بعد إغلاقها مدة خمس سنوات، كما تم تعليق التبادلات التجارية والعلمية والثقافية مع الدول الأجنبية. كذلك توقفت جميع الأنشطة الأدبية والفنية، باستثناء سبع مسرحيات ثورية، والتي تشترك في أن طابعها المركزي هو الحرب ضد الإمبريالية والتحريفية غير أن الصين قد حافظت على عنفوانها رغم تلك الأحداث.
بعد أن بدأت الصين تتعافى من الثورة الثقافية، راحت سلطات بكين تدعم العمل اليدوي وتعمل على إعادة تأهيل الدراسات والعلوم مع إعادة الانفتاح على العالم الخارجي، أما بالنسبة إلى التحالف الصيني-السوفيتي، فإن التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية كان مشروطا بالاعتراف بمبدأ الصين الواحدة مقابل تايوان واستعادة مقعد العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
لا يمكن إنكار النجاحات التي تحققت في هذا المسار الصيني الذي تتبعه ماو تسي تونغ في هذا البلد الذي ظل يتميز بديموغرافيته الكبيرة.
بعد المعاناة الناجمة عن الثورة الثقافية التي خلفت جراحا عميقة، تم لم شمل الأمة واستعادة المملكة الوسطى لتفادي إذلال المعاهدات الغربية الاستعمارية غير المتكافئة في القرن التاسع عشر. أمكن للصين التغلب على الجوع وتقليص نسبة الفقر، فتحسنت الإنتاجية الزراعية وبدأت الصين تنتقل من اقتصاد الكفاف إلى اقتصاد المبادلات التجارية.
تؤكد النجاحات التكنولوجية الملحوظة التي حققتها الصين، من الطاقة النووية إلى استكشاف الفضاء، سلامة النهج الذي تبنته الصين، وقد تم وضع أسس الإقلاع الاقتصادي مع نمو الإنتاج بوتيرة أسرع من النمو السكاني.
كان رئيس الوزراء شواين لاي يتوخى الحذر في توقعاته، حيث اعتبر أن الأمر سيستغرق الصين ما لا يقل عن مائة عام للحاق بالدول المتقدمة، غير أن مؤلف الكتاب آلان بيرفيت تنبأ بتطور الصين بوتيرة أسرع من ذلك بكثير بفضل روح العمل التي ترسخت في البلاد.
يعتبر المؤلف أن تلك النجاحات لا تزال باهظة، إذ إنه يقدر عدد ضحايا ماو تسي تونغ بحوالي 50 مليون شخص، وهو ما يتسق مع تقييمات المؤرخين المعاصرين الذين يقدرون عددهم بين 45 و72 مليون ضحية.
هناك أسباب عديدة جعلت المؤلف يستنتج أن الصين هي مختبر لثورة فريدة من حيث جغرافيتها وحضارتها وتاريخها وشخصية الزعيم ماو تسي تونج، أكثر من كونها نموذجًا يمكن أن يكرره العالم النامي.
انتقلت الصين من مرحلة الثورة إلى مرحة امتلاك عوامل القوة وهو ما يتجلى سنة 2023. صحيح أن ماو تسي تونغ قد أعاد إلى الصين استقلالها وكرس سيادتها غير أن دينغ شياو بينغ هو الذي ألهمها بأخذ سنغافورة كمثال ليبدأ في وضع أسس بناء قوة عظمى، حيث إنه أطلق سنة 1978 ما يسمى بـ«عمليات التحديث الأربعة».
أعاد تعريف النموذج الصيني من خلال ربط تبني الرأسمالية بالانفتاح على العالم الخارجي – الذي تسارع بشكل كبير بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 – والحفاظ على احتكار الحزب الشيوعي كما تم وضع استراتيجية للنهوض السلمي والحصيف على الساحة الدولية.
إن تحول الصين إلى الرأسمالية – إن لم يكن إلى اقتصاد السوق الذي ينطوي على سيادة القانون – إلى الاستثمار الأجنبي والتقنيات الغربية قد مكنها من تحقيق الانطلاق الأكثر إثارة للاهتمام في التاريخ حتى أصبحت، خلال أربعة عقود، ثاني أضخم وأكبر اقتصاد والأول على مستوى تعادل القوة الشرائية.
بلغ النمو 9.7% سنويًا بين عامي 1978 و2019 كما زاد ثقل الصين في الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 3% إلى 18% منذ عام 1975، مع زيادة نصيب الفرد من الثروة من 500 إلى أكثر من 18000 دولار، ما سمح لـ 800 مليون صيني بالخروج من الفقر المدقع لقد حولت الدولة الزراعية ذات الاكتفاء الذاتي نفسها إلى المصنع العالمي والمصدر الرائد في العالم، حيث جمعت أكثر من 3 تريليونات دولار من احتياطيات النقد الأجنبي.
توشك الصين اليوم أن تسد الفجوة التكنولوجية وهي تتنافس اليوم مع الولايات المتحدة الأمريكية على الريادة في التقنيات الرئيسية في القرن الحادي والعشرين، الجيل الخامس (5G) إلى الفضاء عن طريق المركبات والبطاريات الكهربائية أو الطاقات المتجددة أو التقنيات الحيوية.
ومع ذلك، حدثت نقطة تحول جديدة مع الرئيس الحالي شي جين بينج، الذي عاد منذ 2013 إلى التراث الماوي مع سعيه إلى تطوير بلاده حتى تنافس على قيادة العالم. هذا الطموح يقوم على استراتيجية عالمية – الحكم الشمولي والنخوة القومية.
تعود الصين من جديد في تاريخها العريق لتكون في مركز العالم الراهن المعاصر، وهو لعمري ما يمثل تحديًا عالميًا للولايات المتحدة الأمريكية، ليس فقط أيديولوجيًا وعسكريًا ولكن أيضًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا.
تعد الصين أول وأكبر منافس للولايات المتحدة الأمريكية كما تعد أول شريك صناعي وتجاري ومالي لها، لكن في عهد الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ أخذت هذه المنافسة أبعادا أوسع من ذي قبل، إذ إنه بات يعطي الأولوية للأيديولوجيا على النمو وسلطة الحزب الشيوعي على العولمة التي كان لها الفضل في بروز الصين وتعزيز نطاق نفوذها في العالم.
على الرغم من نجاحها الاقتصادي وصعودها المذهل، تكابد الصين لترسيخ نفسها كنموذج، كما يتضح من المقاومة المتزايدة لتوسعها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ على سبيل المثال. لا ننسى أيضا أن الخطاب الصيني ظل قائما إلى وقت غير بعيد على إدانة الإمبريالية والاستعمار الأوروبيين في القرن التاسع عشر، وهو ما يؤكد عليه المؤلف ويعده من نقاط القوة في صلابة الدولة الصينية.
لا تخلو المقاربة التي تنتهجها سلطات بكين من التحديات، على غرار تراجع التركيبة السكانية وتراجع النمو من 9.5% إلى 3% سنويا، على خلفية الانهيار العقاري، والإفراط في المديونية، وتباطؤ التنمية والابتكار مع استئناف الحزب الشيوعي السيطرة على التعليم والشركات والأبحاث.
ليس هناك شك في أن مصير القرن الحادي والعشرين، كما توقع المؤلف آلان بيرفيت قبل خمسين سنة من الآن، سوف يتمحور حول تطور الصين وتنافسها المتصاعد مع الولايات المتحدة الأمريكية على قيادة العالم.
من خلال الشروع في مواجهة مباشرة، كان من الممكن أن يرتكب شي جين بينغ نفس الخطأ الذي ارتكبته ألمانيا في عهد غيوم الثاني في عام 1914 ضد المملكة المتحدة، أو من قبل اليابان العسكرية في الثلاثينيات ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
أشار ماو تسي تونغ في كتابه «دور الحزب الشيوعي الصيني»، الذي نُشر في أكتوبر 1938، إلى أن «الصين المعاصرة هي نتاج كل التطورات السابقة للصين. لا يمكننا فصل أنفسنا عن تاريخنا... يجب علينا تقييم ماضينا بأكمله، من كونفوشيوس إلى صن يات صن. لا يمكننا تطبيق الماركسية في الحياة إلا من خلال تكييفها مع الخصائص الملموسة لبلدنا وفي شكل وطني».
لوفيجارو
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك