بقلم: جيل باريس
يجب ألا ينخدع أي أحد منا بالجبهة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تسعى إلى الظهور بمظهر الجبهة الموحدة في مواجهة الحرب في أوكرانيا. فالاضطرابات في العالم تغذي الغموض الاستراتيجي الذي تجد الولايات المتحدة الأمريكية صعوبة في التخلص منه وتبديه لتظل أسئلة كثيرة مطروحة في هذا الصدد.
إن الفوضى الاستراتيجية الراهنة في العالم تعيد تسليط الضوء على مجالات النفوذ في العالم، وتعددية الأطراف التي تقلل من ثقل التحالفات في العلاقات الدولية. فالقواعد الجديدة للعلاقات الدولية أصبحت بعيدة المنال، باهظة الثمن ووخيمة العواقب.
من المؤكد أن سلطات واشنطن ليست الوحيدة التي تبحث عن طريقها بعيدًا عن هذه الفوضى وحالة الغموض الاستراتيجي غير أنها تستفيد في الحقيقة من هذا الوضع. إن ادعاء الولايات المتحدة الأمريكية الحفاظ على نظام دولي ستظل هي مركزه قد باتت تواجه أسئلة كثيرة.
في إطار الوعد الذي أطلقه في إطار حملته الانتخابية الرئاسية عبر الرئيس الأمريكي جو بايدن، الطامح للفوز بفترة رئاسية ثانية، إعادة توحيد الديمقراطيات مرة أخرى وذلك خلال القمة الافتراضية التي ترأسها يومي 29 و30 مارس الماضي.
يجب القول إن حدس هذا الرئيس الديموقراطي الذي أدرك الثمانين من عمره، والذي كان معاصراً لفترة الحرب الباردة – التي وضعت وجها لوجه المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي سابقا – لا يصلح، بل إنه لن ينجح في صنع نظام دولي.
من جهة أخرى كيف يمكننا وصم الغزو الروسي لأوكرانيا والقول بأن روسيا تدوس على ميثاق الأمم المتحدة دون أن نأخذ العبرة من الذكرى السنوية العشرين لإقدام الولايات المتحدة الأمريكية على غزو العراق كما يجب على الغرب، وفي مقدمته سلطات واشنطن المبادرة بتقديم اعتذار للعالم وهو ما يمثل الحد الأدنى المطلوب.
لا شك أن حالة الغموض الاستراتيجي لا تقل كثافة في صفوف الجمهوريين. فالحزب الجمهوري الحالي يبدو انعكاسا للحزب القديم الكبير في السياسة الخارجية كليًا.
على الورق، يمكن أن نعتبر أن دونالد ترامب ينبذ التدخل الخارجي من خلال المواقف التي يتخذها هو وأنصاره من الحرب الراهنة في أوكرانيا، وهي المقاربة ذاتها التي يتبانها حاكم فلوريدا رون ديسانتيس الذي يعد أخطر منافس لدونالد ترامب في الوقت الحالي في الانتخابات التمهيدية الرئاسية لعام 2024.
لقد أعلن دونالد ترامب ورون ديسانتيس، اللذان يتمتعان معًا بأغلبية ساحقة من نوايا التصويت، أن هذه الحرب لا تهم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية. يمكن للمرء أن يتخيل ماذا سيعني فوز أحدهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة للحلف الأطلسي وخاصة فيما يتعلق بمواصلة تقديم الدعم المالي والعسكري لنظام كييف.
أما الخط التقليدي الجمهوري المستوحى من إرث الرئيس الأمريكي الجمهوري الأسبق رونالد ريجان والذي يجسده اليوم زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل فقد انحسر وأصبح شيئًا من الماضي.
لا شك أن هذه التحولات السياسية والاستراتيجية والفكرية في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية تغذي حالة من الارتباك والغموض الذي طال حتى وسائل الإعلام المعروفة بخطها التحريري المحافظ، بما في ذلك الوسائل الإعلامية التي تنتمي إلى نفس المالك، أي إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ.
لقد أثار رون ديسانتيس ردود أفعال كثيرة عندما اعتبر في لقاء له مع شبكة فوكس نيوز المعروفة بخطها اليميني أن الحرب في أوكرانيا لا تعدوا أن تكون «نزاعا إقليميا» قبل أن يتراجع عن ذلك ويخفف من تصريحاته.
بغض النظر عن التقارب في أوجه النظر من الصراع المستمر في أوكرانيا، وكذلك الكراهية الشائعة لأي شيء يمكن أن يمت بأي صلة لمبدأ الحوكمة الحكم العالمي وتنظيم وإدارة العلاقات والصراعات الدولية، والذي لعبت الولايات المتحدة الأمريكية في إرسائها ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنه يلاحظ اليوم وجود انقسامات مستمرة داخل هذه المدرسة الجديدة، ما بين أولئك الذين يدافعون عن الانعزالية الحقيقية وأولئك الذين يحطون من شأن وخطورة التهديد الروسي ويفضلون التركيز بشكل أفضل على ذلك الذي تمثله الصين.
لقد تركزت الأنظار الغربية والعالمية على الزيارة الأخيرة التي قام بها مؤخرا الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى موسكو، لإعادة تأكيد الشراكة رسميًا مع روسيا، ولكن على صعيد الممارسة العملية فإن الصين تريد أن تتجنب الانجرار إلى المستنقع الأوكراني وهو ما يعكس أيضا حدود التحالف بين روسيا والصين.
وبسبب عدم وجود أي خط واضح، فإن الديمقراطيين والجمهوريين في الكونجرس يقفون حاليًا في موقف مناهض للصين. أعطت جلسة الاستماع الشبيهة بلائحة الاتهام التي أجراها مجلس النواب لمدير التطبيق الشهير للغاية TikTok، التابع لشركة ByteDance الصينية العملاقة، مقياسًا لذلك في يوم 23 مارس 2023، بعد أسابيع قليلة فقط من الإثارة التي سببها التحليق فوق الأراضي الأمريكية من قبل البالونات الصينية التي دمرت بصواريخ باهظة الثمن.
لقد سلط علماء الاجتماع وخبراء السياسية والاستراتيجية الضوء خلال العقود القليلة الماضية على التناقضات التي تشق العلاقات بين الدول الغربية في ظل استمرار هيمنة الولايات الأمريكية على القرار الأوروبي. على صعيد السياسة الخارجية يمكن أن تؤدي هذه الخلافات والانقسامات إلى كوارث حقيقة على غرار ما عاشته الولايات المتحدة قبل عشرين عامًا في العراق.
لوموند
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك