بقلم: بيير فررليس
لقد انقضت ما يقرب من ثلاثة عقود منذ اختفاء الاتحاد السوفيتي في سنة 1991 في خضم الأحداث التي رافقت تفتت الإمبراطورية السوفيتية وتفكك حلف وارسو ونهاية الحرب الباردة. يعود الحديث بكل قوة عن تداعيات تلك الأحداث التي جدت في الفترة ما بين نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات على وقع الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا المدعومة بقوة من الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وُلد اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية من رحم الثورة البلشفية في أكتوبر من سنة 1917 وهي عبارة عن إمبراطورية مترامية الأطراف تمتد على مساحة 22 مليون كيلومتر مربع. بعد الانفصال عن الجمهوريات الأربع عشرة الأخرى، ما زالت روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي تمتلك 17 مليون كيلومتر مربع.
رغم سقوط الاتحاد السوفيتي فقد ظلت روسيا حريصة على مراقبة كل ما يجري خارج حدودها وفي تلك المناطق التي تعد مجالها الحيوي، الأمر الذي جعل بعض المحللين والكتاب يقولون إن عقيدة بريجنيف «السيادة المحدودة» لا تزال سارية ولم تمت بموت صاحبها، الزعيم السوفييتي الأسبق ليونيد بريجنيف أو بانهيار الإمبراطورية السوفيتية التي حكمها فترة طويلة من الزمن في ذروة الحرب الباردة.
ومع ذلك، فقد ظل اللاعبون الرئيسيون على الساحة الدولية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وكذلك الصين، يطورون خططهم ويرقبون ما يحدث في روسيا وما يحدث على مقربة من الحدود مع روسيا، وهو ما يؤجج التوترات التي تؤدي إلى الصدام العسكري مثلما يحدث اليوم في أوكرانيا، ما حدث من قبل في جورجيا في سنة 2008، وفي أوكرانيا مرة أخرى في سنة 2014، ما حدث من قبل في الشيشان.
ومثلما ذكر في أكثر من مناسبة، وخاصة على ألسنة محللين وأكاديميين تتسم كتاباتهم بالتوازن، فإنه يخطئ من يعتقد أن الحرب الدائرة الآن هي بين جمهورية روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا، وإنما هي حرب ما بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وهي حرب يريد منها الغرب تضييق الخناق على الصين والحيلولة دون ظهور نظام عالمي جديد.
واللافت للانتباه فإن أغلب الدراسات التي تركز على منطقة القارة الأوروبية تشمل بالضرورة دراسة جغرافية روسيا وحدودها وتاريخها وسياساتها وهو ما يفسر هذا الارتباط الوثيق ما بين تاريخ روسيا وتاريخ الغرب وأوروبا على وجه الخصوص وقد بلغ هذا الارتباط العضوي أوجه إبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
يسلط المؤلف في الجزء الأول من هذا الكتاب الضوء على استعراض تاريخ قيام اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية وتداعياته على العلاقات الدولية والروابط بين الشرق والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
يركز المؤلف اهتمامه في الجزء الثاني من هذا الكتاب على سياسات روسيا في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين وصدامها مع الغرب الذي ظل يسعى إلى توسيع حدود الحلف الأطلنطي لتصل إلى تخوم روسيا، سواء في جورجيا أو من بوابة أوكرانيا. ينظر الثاني إلى روسيا فلاديمير بوتين. أما الجزء الثالث فقد ركز فيه الكاتب اهتمامه على التعمق في تحليل عدة محطات مهمة في تاريخ الاتحاد السوفيتي.
خصص المؤلف الجزء الرابع للحديث عن عوامل القوة الصلبة والقوة الناعمة التي تمتلكها روسيا رغم ما يقال عن ضعفها وهشاشتها. وبذلك فإن القارئ سيكون قادرا بعد الاطلاع على هذه الكتاب على تحقيق فهم أعمق لما يجري من أحدث اليوم، وهي تعد حلقة من حلقات الصراع التاريخي بين الغرب وروسيا.
أسهم عدة أكاديميين وخبراء في تأليف هذا الكتاب الذي يقدم للقارئ عدة أساسيات ومفاتيح لفهم التاريخ الحديث وخاصة العلاقة الصدامية ما بين الغرب وروسيا، مع إبراز تاريخ روسيا وجغرافيتها وحدودها ومجالها الحيوي وسياساتها ورؤيتها الجيوسياسية، فضلاً عن علاقة روسيا بالإرث السوفيتي.
وفي الحقيقة، فإن روسيا الحديثة لا تزال تدور في فلك الإرث السوفييتي والأحداث التاريخية على مدى عقود قبل نهاية الحرب الباردة وانهيار الإمبراطورية السوفيتية. ففي يوم 9 مايو 2005، وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدعوة إلى نظرائه الأجانب بحضور الاحتفالات التي ستقام في موسكو في الذكرى الستين لعيد النصر.
ترددت رئيسة ليتوانيا آنذاك فايرا فريبيركا في قبول الدعوة الروسية والتحول إلى موسكو لحضور الاحتفالات ذلك أنها معروفة بانتقادها للرؤية الروسية في قراءة تاريخ الحرب العالمية الثانية. فقد تم ضم ليتوانيا إلى الاتحاد السوفيتي في سنة 1940 قبل أن يحتلها النازيون الألمانية ما بين 1941 و1945 لتعود مرة ثانية إلى الاتحاد السوفيتي مع هزيمة ألمانيا ونهاية الحرب العالمية الثانية.
لم تكن رئيسة ليتوانيا مستعدة للاعتراف بدور الجيش الأحمر السوفييتي كمحرر لبلادها، وقد بعثت برسالة إلى الرئيس بوتين توضح فيه رؤيتها للتاريخ، حيث قالت له إنها لا ترى في يوم 9 مايو الذكرى الستين لبلادها وإنما ترى فيه الذكرى الخامسة والخمسين لإعلان «شومين» الذي وضع الأسس لقيام الاتحاد الأوروبي والذي تفخر بلادها بالانضمام إليه كعضو كامل منذ سنة 2004.
يمثل هذا الموقف وغيره رفضا للماضي الشيوعي وقبولا بالحاضر الأوروبي الليبيرالي، وهو ما جعل رئيسة ليتوانيا تفضل حضور الاحتفالات بانتصار أوروبا الغربية على ألمانيا النازية، وهي ما يؤكد أن أشباح التاريخ تخيم على العلاقات ما بين روسيا وجيرانها من الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي.
لم يتوقف الأمر عند ذلك فقد احتدم الصراع حول قراءة التاريخ على مدى الأعوام الماضية ما بين روسيا بقيادة فلاديمير بوتين من ناحية وجمهورية ليتوانيا وبقية دول البلطيق ليصل الأمر إلى أوكرانيا ودول أخرى كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي لينتقل الصراع إلى الرأي العالم ودوائر المؤرخين والأكاديميين.
ومن بين أطروحات نيل شهادة الدكتوراه والتي أنجزت مؤخرا على سبيل المثال، نذكر رسالة بعنوان «صناعة ليتوانيا السوفيتية سياسة السفيتتة 1939-1949». لقد مثلت هذه الأعوام العشرة محطة مفصلية في رسم تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين، وهي الفترة التي لا تزال تذكي نقاشات حادة حول التاريخ ونحن نعيش اليوم في القرن الحادي والعشرين. فكأني بروسيا تحارب اليوم التاريخ والجغرافيا معا وكأن بالتاريخ الماضي يتحكم في حاضر ومستقبل هذه المنطقة من العالم.
يقول الأكاديمي الذي أنجز هذه الأطروحة الجامعية إن ليتوانيا تجسد البنية المعقدة لأغلب دول أوروبا الشرقية سابقا والتي تقوم على فسيفساء اجتماعية، وقومية وعرقية أيضا، ذلك أن حكام الاتحاد السوفيتي، وخاصة منهم جوزيف ستالين، قد طبقوا سياسة التهجير القسري والتوطين في أماكن أخرى من الاتحاد السوفيتي بهدف بناء دولة متماسكة وكسر شوكة القوميات الأخرى التي قد تضعف الدولة. تظهر الأرقام الإحصائية أنه تم ترحيل عشرات الآلاف من السكان في إطار تلك السياسات السوفيتية الرامية إلى خلق واقع ديمغرافية جديد.
لا ينفي الباحث أيضا أنه في فترة الحرب العالمية الثانية حدث تقارب كبير ما بين ليتوانيا وعدة بلدان أخرى مع ألمانيا النازية، الأمر الذي أثار حفيظة الاتحاد السوفييتي وأقلق حكام الكرملين، وخاصة مع ظهور تيارات فاشية ونازية معادية للاتحاد السوفيتي في هذه البلدان المجاورة.
يخلص الباحث في هذه الأطروحة الجامعية إلى أن التعمق في فهم فترة النفوذ السوفييتي في ليتوانيا يساعد الكثير على فهم التطورات التي تحدث اليوم، والتي قد تحدث أيضا مستقبلا.
دبلوب
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك