ما الدور الذي يلعبه النزاع (الخلافات) الموروثة عن الماضي في إشعال فتيل الأزمات وتأجيج الصراعات في العالم؟ وماذا عن الخلافات الإقليمية، والتنافس في البحث عن الهيمنة والنزاعات المزمنة، وذكريات الحروب الأهلية، ومشاعر الإحباط؟
إن التاريخ والحاضر يعجّان بالصراعات الناجمة عن الخلافات الموروثة عن الماضي. بل إن هذا الأخير يخلق أحيانًا «تقاليد المواجهة» الحقيقية.
يعتبر المؤلف والأكاديمي باتريس غوردان في كتابه «دليل الجيوستراتيجيا» أن أغلب الحالات تبرز بعض الأسباب باعتبارها الأكثر شيوعًا، وهي تلك المتعلقة بالنزاعات الإقليمية، والتي يمكن أن تسير جنبًا إلى جنب مع الحدود غير المعترف بها، وهو يطلق عليها وصف «صراعات الذاكرة التاريخية» وهو يعتبرها من أخطر المسائل التي تعكر صفو العلاقات بين الدول والشعوب.
ترتبط هذه الخلافات أحيانًا بتأكيد الدول على أحقيتها وبصراع القوة والنفوذ، كما ترتبط بالنزاعات الإقليمية. وهكذا فقد تم احتلال الأراضي على مر التاريخ وأعيد احتلالها والسيطرة عليها كما تم ترسيم الحدود وأعيد ترسيمها وهي أمثلة تملأ الكتب التاريخية والجيوسياسية.
من المسلم به أن القانون الدولي يكرس السلامة الإقليمية للدول، وبالتالي يشدد على عدم التحدي على الحدود، لكن يوجد حاليًا العديد من الاستثناءات كما يستعرضها هذا الكتاب الجديد الذي يمثل مرجعا في العلوم السياسية والجيوستراتيجية.
يقول المؤلف إن قائمة الأمثلة طويلة وقد اقتصر على استعراض البعض منها، منها مطالبة اليابان بجزر الكوريل التي يسيطر عليها الروس، والحدود بين إثيوبيا وإريتريا، ونزاع شط العرب بين العراق وإيران، والخلافات المزمنة بين الدول حول السيادة على الجزر، والمستوطنات الإسرائيلية على الأراضي المحتلة عام 967، ومنفذ البحر لبوليفيا، قناة بيغل بين تشيلي والأرجنتين.
فالصين، على سبيل المثال، تحدها أربع عشرة دولة كانت لديها (أو لا تزال) خلافات معها، وقد نجحت سلطات بيكين في إنهاء أغلب هذه الخلافات والنزاعات الموروثة عن الحقب التاريخية الماضية عبر التاريخ.
أما اليوم، وعلى الرغم من التحسن الملحوظ في العلاقات منذ عام 2005، فإن الخلاف الأهم هو الذي يتواصل حتى اليوم بين الصين والهند، إذ تتمسك الدولتان بمطالبات متداخلة: - تطالب نيودلهي بـمساحة 43180 كيلومترًا مربعًا من جامو وكشمير (على هضبة أكساي تشين)، احتلتها بكين بعد انتصارها العسكري في عام 1962، والتي تنازلت حتى عن 5180 كيلومترًا مربعًا لصالح باكستان في عام 1963.
ومن جانبها تتهم سلطات بكين جارتها الهند بالسيطرة بشكل غير قانوني على 90,000 كيلومتر مربع من الأراضي الصينية (بما في ذلك كل أروناشال براديش) نتيجة التقسيم الأحادي الجانب الذي تم تكريسه في عام 1914 من قبل بريطانيا العظمى (خط ماكماهون).
لا تزال بعض الحدود غير معتمدة من قبل جميع الدول التي يتألف منها المجتمع الدولي والأمثلة على ذلك كثيرة وتؤجج اليوم العديد من الأزمات والصراعات.
على سبيل المثال، نذكر تلك الخاصة بدولة إسرائيل: الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان التي تم احتلالها عام 1967، ولم تتم تسويتها حتى اليوم. ومن ثم الحساسية الشديدة التي تبديها إسرائيل عندما يتعلق الأمر بالخرائط. ففي عام ١948، بعد الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، حددت هدنة رودس خط وقف إطلاق النار - الخط الأخضر - بين إسرائيل والضفة الغربية.
بعد احتلالها الضفة الغربية في حرب الأيام الستة في شهر يونيو 1967، قامت الحكومة الإسرائيلية بمحو الخط الأخضر من جميع الخرائط الرسمية، ولا سيما تلك التي تظهر في الكتب المدرسية والأطالس المدرسية.
كان هذا بمثابة انعكاس لرغبة حكام إسرائيل في محو هذه الحدود على أرض الواقع، والتي تم تحديدها بقرار صادر عن منظمة الأمم المتحدة. وهو أمر بعيد عن الواقع: فقد ظل الخط الأخضر يمثل الحدود الإدارية والقضائية بين الدولة اليهودية والأراضي المحتلة، كما تحولت مع الانتفاضة إلى حاجز أمني يصعب عبوره.
يبدو أن ظهور الخط الأخضر مجددًا في الكتب المدرسية في عام 2007، يمثل الاعتراف الضمني بالخط الأخضر باعتباره «الحدود الافتراضية» بين كيان فلسطيني مستقبلي وإسرائيل وقد برر يولي تامي، وزير التربية والتعليم الإسرائيلي آنذاك قراره بالعبارات التالية:
«لدولة إسرائيل حدود معقدة، ومن المستحيل مطالبة الأطفال بفهم الوضع السياسي من دون شرح السياق التاريخي. التاريخ جزء من الواقع الجيوسياسي الذي نعيش فيه».
من بين أكثر الأزمات تعقيدًا تلك التي تتغذى من صراعات الهوية الخاصة بالأقدمية: تلك التي يكون فيها الإقليم نفسه موضوع نزاع بين مجموعتين يعتبرانه مهدهما الأصلي ويبرران ادعائهما بوجود أقدم من الآخر.
هذه النزاعات هي من بين أكثر النزاعات صعوبة في الحل وتستعصي على التسوية السلمية، حيث يسود البعد العاطفي والتزوير عندما يتعلق الأمر بتأكيد «حقوق» هذا الجانب على إقليم يدخل في تعريف ومفهوم الهوية الوطنية للجانب الآخر.
يقدم ألبان كوسوفو أنفسهم على أنهم من نسل الإيليريين في العصور القديمة. بينما استدعى الصرب إمبراطورية القرون الوسطى دوسان وادعوا أن الاستيطان الألباني أعقب الاحتلال التركي. بالإضافة إلى ذلك، كانت بريزرين مهد «العصبة» التي تحمل الاسم نفسه في عام 1878، وهي رأس حربة القومية الألبانية. بينما شهدت منطقة «بيك» ولادة البطريركية الصربية الأرثوذكسية.
يزعم الأرمن أن جذورها هي الأكثر رسوخا في إقليم ناغورني كاراباخ المتنازع عليه، بينما يزعم الأذربيجانيون أنهم وصلوا إلى منطقة كانت آنذاك خالية من الأرمن، حيث تم توطين الأرمن، في القرن التاسع عشر فقط، على يد القياصرة الذين كانوا يقاتلون ضد الإمبراطورية العثمانية.
يجادل الرومانيون والهنغاريون في ترانسيلفانيا بنفس النوع من الحجج. بالنسبة للجانب تعتبر ترانسيلفانيا مكان إقامة الداقية، وهم سكان مستعمرون ورومانيون، وهم أحفاد مباشرون لهم. بالنسبة إلى الجانب الثاني، أي الهنغاريون، كانت ترانسيلفانيا منطقة مكونة لمملكة المجر، في القرن العاشر، ثم كانت خالية من السكان الناطقين بالرومانية.
هناك أيضًا العديد من الصراعات التي تهدف إلى فرض الهيمنة أو محاربتها والسعي إلى القضاء عليها بشتى السبل والوسائل. كان التنافس بين حكام فرنسا وآل هابسبورغ في النمسا، ثم التنافس بين فرنسا وألمانيا، نصيبه من الأسبقية التاريخية في القارة الأوروبية. بين القرن السابع عشر وبداية القرن العشرين، كان الإنجليز دائمًا حريصين على استبعاد أي قوة بحرية منافسة، من أجل الحفاظ على الهيمنة البحرية، وهي أساس قوتهم.
تظل ذكرى ورواسب هذه الخصومات والصراعات الدموية راسخة في الذاكرة الجماعية للشعوب، من خلال ما يحتفظ به كل تجاه الآخر أو الآخرين، سواء الإنجليز أو الألمان أو الفرنسيين.
في ظل سلالة جاجيلونيان (1386-1592)، فرضت بولندا قوتها على دول أوروبا الوسطى مما أثار استياءً شديدًا. أدى ضعفها، منذ القرن السابع عشر، إلى إثارة الشهية الإقليمية وعداء جيرانها النمساويين والبروسيين والسويديين والروس والأتراك.
في القرن التاسع عشر تواجد البولنديون، على سبيل المثال، في جميع نزاعات القوقاز، إلى جانب الشعوب التي عارضت الغزو، ثم الهيمنة الروسية.
خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، كانت أجهزة استخبارات بولندا لا تزال نشطة للغاية في هذه المنطقة. بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، لم تثق سلطات وارسو بالألمان. نصت الاتفاقية الألمانية السوفيتية، في 23 أغسطس 1939، على «التقسيم الرابع» لبولندا بين المتنافسين على الهيمنة والنفوذ في القارة العجوز.
طوال الحرب العالمية الثانية، وبالتوازي مع الجرائم ضد اليهود، كان السكان غير اليهود في بولندا أيضا هدفًا لفظائع من جانب كل من الألمان والروس.
على سبيل المثال، كانت مذبحة الضباط الأسرى، التي أمر بها المكتب السياسي، في 5 مارس 1940، تهدف إلى قطع رأس النخب البولندية، من أجل جعل إعادة ولادة دولة بولندية معادية للاتحاد السوفياتي أمرًا مستحيلًا. في رسالة إلى ستالين، كتبت بيريا يقول:
«عدد كبير من الضباط السابقين في الجيش البولندي، والمسؤولين السابقين في الشرطة البولندية وأجهزة المخابرات، وأعضاء الأحزاب القومية المناهضة للثورة، وأعضاء منظمات المعارضة المناهضة للثورة، والمنشقين وغيرهم، وجميعهم أعداء لدودون للسلطة السوفيتية ويكنون كراهية دفينة للنظام السوفيتي، محتجزون حاليًا [...] ويحاول سجناء الجيش والشرطة في المعسكرات مواصلة أنشطتهم المضادة للثورة والاستمرار في التحريض ضد السوفييت. كل واحد منهم ينتظر إطلاق سراحه فقط للدخول في صراع نشط ضد القوة السوفيتية».
ظل سؤال يقض مضجع منطقة الشرق الأوسط منذ تصفية الدولة العثمانية وتفكيكها وانهيارها: من سيشغل المركز المهيمن الذي ترك شاغرًا في المنطقة؟ لم تنجح دول إقليمية كثيرة إلى اليوم في ذلك، ويبدو من غير المرجح أن تنجح في ذلك مستقبلا. ومع ذلك، منذ عشرينيات القرن الماضي، كان جزء من عدم الاستقرار المزمن في هذه المنطقة ناتجًا عن طموحات الهيمنة والنفوذ في المنطقة العربية والشرق الأوسط بصفة عامة.
ومن دون استبعاد خطر التسبب في نزاعات مسلحة، تتضاعف «نزاعات الذكرى والذاكرة» حتى اليوم في القارة العجوز - أوروبا.
تشكل المعارك المميتة في الحربين العالميتين، والجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة، أو خلال فترات الاستبداد موضوعًا يؤجج الجدل الواسع والنقاشات المستعرة والتي انتقلت إلى أوساط المؤرخين والأكاديميين والسياسيين.
لننظر في حالة أوكرانيا. لقد أبدى الرئيس الرئيس فيكتور يوشينكو إصرارا على النأي ببلاده عن روسيا في جميع المجالات. وبالفعل، في عام 2007، أثار افتتاح «متحف الاحتلال السوفيتي» في كييف غضب النشطاء الموالين لروسيا.
لكنه كان خلافًا تاريخيًا آخر هو الذي أثار توترات على درجة من الخطورة تعادل تلك التي نشأت عن مسألة إمكان انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. اعتمد برلمان كييف، في نهاية عام 2006، قانونًا يصف المجاعة الكبرى في 1932-1933 بأنها «إبادة جماعية ضد الشعب الأوكراني».
ولا يزال الجدل على أشده حول هذا التوصيف، مثل الجدل المتعلق بعدد القتلى، محتدمًا. في عام 2008، أعطى الرئيس الأوكراني أهمية خاصة للاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لهذه المجاعة الكبرى (حرفياً: «الإبادة بالجوع»)، التي أودت بحياة ربع السكان الأوكرانيين، وهو ما أثار أحد آخر الخطابات القومية المتطرفة التي وجهها ألكسندر سولجينتسين.
اعتمد مجلس الدوما إعلانًا يدين ما أسماه «المضاربات والمغالطات السياسية» ويذكر أن «شعوب الاتحاد السوفيتي دفعت ثمناً باهظاً (...) للتقدم الاقتصادي الذي تحقق في ذلك الوقت».
تعتبر روسيا، ولا سيما في الرسالة التي رفض فيها الرئيس ديمتري ميدفيديف دعوة نظيره الأوكراني لهذه الذكرى، أن مجاعة 1932-1933 لم تدمر أوكرانيا فقط ولم تكن جزءًا من إرادة عازمة على إبادة سكان معينين.
علاوة على ذلك، اعترف البرلمان الأوروبي بذلك عندما تبنى، بمبادرة من أحد أعضائه، وهو المؤرخ البارز برونيسلاف جيريميك، قرارًا يتحدث عن «جريمة ضد الإنسانية». ورد البعض بأن ستالين ارتكب إبادة جماعية ضد شعب الاتحاد السوفيتي بأكمله وهو ما لا تريد السلطات الروسية سماعه لأن ذلك من شأنه أن يقلل من أهمية الفترة الستالينية:
«في كتاب التاريخ المدرسي الجديد الذي أقره الكرملين لمعلمي وطلاب المدارس الثانوية، توصف عمليات التطهير والترحيل والمعتقلات السيبيرية (goulags) في عام 1937 بأنها خطوة مؤلمة ولكنها ضرورية على طريق التقدم». وفقًا للمؤلف الدليل، فإن «الإصلاحات» التي قام بها ستالين «من أعلى» يمكن مقارنتها بتلك التي قام بها القيصر بطرس الأكبر».
كما تكشف النقاب عن مصادرة FSB (خلف الكي جي بي)، في 4 ديسمبر 2008، لجميع محفوظات الجمعية الروسية «الذاكرة» والتي تولت منذ سنة 1988، جمع شهادات ووثائق تتعلق بتاريخ الستالينية.
إلى جانب ذلك تم إغلاق الأرشيفات العامة، يعكس هذا الإجراء من قبل الحكومة الرغبة في إخفاء الحقيقة التاريخية، غير أن جليب بافلوفسكي، أستاذ العلوم السياسية أيد تلك الخطوات واتهم جمعية «ميموريال» بالسعي إلى «تدمير جهاز المناعة في البلاد، وتفجير أزمة هوية خطيرة في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي».
من أجل استعادة العظمة الروسية، فإن مشروع القادة الروس الحاليين هو تمجيد القومية الروسية من خلال دمج انتصارات الحقبة السوفيتية مع التعتيم على إخفاقاتها. لا شك أن هذه المراجعة للماضي الشيوعي من شأنها أن تزيد من توتر العلاقات بين روسيا والعديد من جيرانها، ومنهم أوكرانيا.
لا يقتصر الأمر على روسيا في حقيقة الأمر فالعديد من الدول، لاسيما منها الغربية والتي كانت قوى استعمارية، تواجه اليوم تحديات من الداخل بشأن موضوع الاستعمار ومخلفاته التي تتوارثها الأجيال (فرنسا، على سبيل المثال) أو الحروب الأهلية (لا سيما في يوغوسلافيا السابقة أو في إسبانيا).
تجد إسبانيا نفسها منذ عام 2000 على وجه الخصوص في قبضة حركة «استعادة الذاكرة التاريخية»، وقد شهدت في 2007-2008 جدلًا حيويًا محتدما للغاية يعيد إحياء ذكريات الحرب الأهلية وإرث الجنرال فرانكو الذي انتهج الفاشية وحكم بلاده بقبضة حديدية، كما عادت إلى الواجهة أيضا مسألة دعم الكنيسة الكاثوليكية لنظام فرانكو الدكتاتوري، بينما يندد اليسار في إسبانيا إلى الواجهة بينما ندد اليسار بإهمال ضحايا القمع في عهد فرانكو.
أخيرًا، أدان قانون الذكرى في 31 أكتوبر 2007 فرانكو، وأمر بإزالة التماثيل واللوحات التذكارية والرموز الأخرى تكريماً لفرانكو، لكن عندما احتفظوا بذكرى الكهنة أو الراهبات الذين كانوا ضحايا للجمهوريين، مما يعكس حالات الانقسامات الداخلية في قراءة التاريخ.
بالإضافة إلى ذلك، تم فتح الباب في إسبانيا أمام إعادة التأهيل و/ أو التعويض لضحايا الديكتاتورية (من 1936 إلى 1975). لذلك فليس من المستغرب أن تكون الهرمية الكاثوليكية، قبل الانتخابات التشريعية في 9 مارس 2008، قد دعت إلى التصويت ضد الحزب الاشتراكي. ومع ذلك، أعيد انتخاب حكومة ثاباتيرو اليسارية.
في 16 أكتوبر 2008، فتح القاضي بالتازار جارزون تحقيقًا ضد الجنرال فرانكو و34 من جنرالاته. تم تعليق هذا القرار في 7 نوفمبر وكان محكوم عليه بالفشل بالتأكيد (لا سيما بسبب قانون العفو لعام 1977)، كان لهذا القرار أهمية رمزية وسياسية.
كان خوسيه لويس ثاباتيرو بمثابة الوريث الجدير لتوني بلير وهو أحد أفضل طلاب العولمة الليبرالية، لكنه يحافظ على صورة يسارية لا تشوبها شائبة عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاجتماعية (النسوية، مناهضة العنصرية... إلخ) أو الشؤون التاريخية. حروب الذاكرة، في فرنسا كما في إسبانيا، هي أيضًا، وقبل كل شيء، سياسات تخدم أهدافا وتستفيد منها أطراف تحولها إلى رأسمال تقتات منه.
وحتى السياسة الخارجية، منذ أن أسس البابا بنديكتوس السادس عشر إسبانيا على أقوى الآمال في الحفاظ على تأثير الكاثوليكية في القارة الأوروبية، مما دفعه إلى دعم الأسقفية ضد الحكومة. لكن الحذر الأكبر ضروري بالنسبة له، لأن مدريد يجب أن تستضيف وتمول يوم الشباب العالمي في عام 2011. بالإضافة إلى ذلك، تؤثر إسبانيا على تطور أمريكا اللاتينية، حيث أكبر مجتمع كاثوليكي في العالم.
في بعض الأحيان يعود سبب الخلاف إلى زمن بعيد. وهكذا فإن الخلافات بين جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة- ARYM واليونان: تدور أحداث كل شيء حول حلقة تاريخية تعود إلى... القرن الرابع قبل الميلاد، عهد الإسكندر الثالث الأكبر (356-323).
أما أثينا باليونان فهي ترى في عهد السلالة المقدونية شهادة ميلاد الأمة اليونانية، وهي تدعي (وتدافع) عن الحق الحصري في استخدام التسمية «مقدونيا»، رمز الملكية المقدونية واللقب لواحد من أعظم رجالها.
منذ عام 1992، فإن الادعاء بأن تبني الاسم (الذي تعترف به اليوم 120 دولة - بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا والهند والصين - من بين 160 دولة لديها علاقات دبلوماسية مع سكوبي) يعني تلقائيًا المطالبة بإقليم مقدونيا الخاص بها. تمنع اليونان عملية انضمام جارتها إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي.
في بداية يناير 2007، وصل التوتر بين البلدين إلى ذروته لأن الحكومة المقدونية قررت تغيير اسم مطار سكوبي باسم جديد بما معناه «الفاتح». ردًا على ذلك، طالب المقدونيون، خلال صيف عام 2008، بعدم تسمية مطار ثيسالونيكي باسم «مطار مقدونيا».
في ديسمبر 2008، نيابة عن رئاسة الاتحاد الأوروبي، اعتبر وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، أن «مشكلة مقدونيا تكمن في الاسم». وتجدر الإشارة إلى أن هذا التفرد لا يؤثر إلا على جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة، لأنه لم يتم أبدًا الاحتجاج على عشرات الأماكن التي تحمل اسم مقدونيا في جميع أنحاء العالم (ما لا يقل عن ستة في الدول).
لا يسع المجتمع الدولي إلا أن يلاحظ أن «إحدى خصائص البلقان هي أنها تعاني من أكثر الأزمات الباطنية هناك». في الواقع، يبدو أن جزءًا من المشكلة اليوم يتمثل في عدم القدرة على تغيير الموقف الذي يجد السياسيون في كلا البلدين أنفسهم فيه.
لقد دافعوا عن مثل هذه المواقف المتعنتة لفترة طويلة لدرجة أنهم يعتقدون، عن صواب أو خطأ، أن ناخبيهم لن يغفروا لهم موقفًا معتدلًا ومصالحيا.
إن هذا الاستقطاب الحاد في الادعاء بالانتماء إلى إرث الإسكندر الأكبر يبدو قبل كل شيء حقيقة لليمين القومي ويتغذى منها إيديولوجيا، في حين أن اليسار يركز بشكل أكبر على الجزء السلافي من الهوية المقدونية.
هناك مثال آخر يميز الماضي بشكل خاص وهو يتمثل في الدبلوماسية والسياسة الدفاعية للدول الأوروبية في الكتلة السوفيتية السابقة، والتي تخشى على وجه الخصوص عودة التوسع الروسي، وهو ما يفسر اليوم هذا التصميم الذي تبديه هذه الدول والرغبة الجامحة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي.
يواجه الكثير من سكان دول البلطيق صعوبة كبيرة في رؤية عمل الاتحاد السوفيتي بين عامي 1939 و1945 على أنه «تحرير». «بالنسبة لنا، لم يكن هناك نصر. كان مجرد كابوس طويل» - ذلك ما قاله مؤخرا توماس هندريك إلفيس، وهو يشدد على أن هناك العديد من الخلافات مع روسيا في قراءة التاريخ، مثل أزمة ربيع 2007 مع إستونيا. ففي عدم إزالة الجندي البرونزي من تالين، تم تركيز سوفيتي يمجد الجيش الأحمر في عام 1947.
في شهر نوفمبر 2006 اعتمد البرلمان الإستوني قانونا جديدا يحظر العلامات «التي تمجد الجيوش والدول التي احتلت إستونيا». وفي 9 مايو 2005، رفض رئيس جمهورية إستونيا آنذاك، أرنولد روتل، المشاركة في الاحتفالات التي نظمتها موسكو لإحياء الذكرى الستين لنهاية الحرب العالمية الثانية.
تعتبر السينما وسيلة اتصال قوية وقد تطرق المثير من الأفلام إلى النزاعات الموروثة والصراعات والحروب ذات العلاقة بالذاكرة التاريخية بين الشهود والدول في مناطق عديدة من العالم.. على سبيل المثال، شهدت العاصمة البولندية وارسو في يوم 17 سبتمبر 2007 العرض الأول لفيلم Andrezj Wajda المخصص لمذبحة الضباط البولنديين على أيدي السوفييت في كاتين في أبريل 1940 وقد اتسم ذلك العمل ببعد سياسي لا يمكن إنكاره، كما ظلت تلك الحادثة عالقة في الذاكرة الجماعية وتحول دون نزع فتيل التوتر الذي يطغى على العلاقات الروسية البولندية.
كذلك ظلت الأفلام المرتبطة بنوع «سينما الملحمة الوطنية»، التي تصور غزو الدولة المجاورة وما اصطدمت به من مقاومة وطنية بطولية، على غرار الفيلم الروسي فلاديمير «1612» للمخرج فلاديمير خوتينينكو الذي يروي كيف طرد الروس في ذلك العام المحتلين البولنديين.
تتنوع وسائل الإعلام: فقد تحولت ألعاب الفيديو، التي تقتصر عادة على الحرب العالمية الثانية وحدها إلى رهان حقيقي وساحة بدورها لمعارك الذاكرة. في نهاية عام 2007 على سبيل المثال تم إطلاق فيلم «Les ombres de la guerre» أي «أشباح الحرب»، والذي يركز على الحرب الأهلية الإسبانية.
تطرق ذلك الفيلم إلى قيام وحدة جوية نازية بقصف غيرنيكا في إسبانيا، وقد أثار ذلك جدلاً بين أولئك الذين اعتقدوا أنه سيسمح بتعريف الأجيال الشابة بتاريخهم وأولئك الذين يخشون التقليل من فظاعة مثل هذه الجرائم، وقس على ذلك في مناطق أخرى من العالم.
ومع ذلك، يجوز التشكيك في القيمة التربوية للعبة الفيديو التي تتطرق إلى الأحداث التاريخية الموثقة، إذ إنها اللعبة التي تتيح إمكانية تغيير مسار الأشياء والأحداث، لكن القصة مبنية على حقائق وليس على افتراضات، والأفعال المرتكبة لا رجعة فيها وهي جزء من ذاكرة التاريخ والأمم.
قد يكون لهذا الأمر أهمية إذا ما نظرنا إليه من منظور البناء السياسي المشترك وتكريس مفاهيم المصالحة والتعايش وخاصة في البلدان التي شهدت حروبا أهلية دامرة ومدمرة وهي تحتاج بالتالي إلى عملية مصالحة مع الذاكرة التاريخية، هذه المصالح التي تصطدم بالخلافات الموروثة بين الدول، على غرار تلك التي نلمسها اليوم بين روسيا وبولندا ودول البلطيق.
لا تقتصر ظاهرة «نزاعات النصب التذكاري» على أوروبا بل إنها تشمل على عدة بلدان ومناطق وشعوب على غرار الخلافات التاريخية ما بين تركيا وأرمينيا وحرب الذاكرة بين فرنسا ومستعمراتها، وخاصة منها الجزائر.
ظلت العلاقات الصينية اليابانية متأثرة إلى حد كبير بالانتهاكات التي ارتكبها الجيش الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، وخاصة تلك الفظائع التي رافقت استيلاء الجيش الياباني على نانجينغ في ديسمبر 1937.
يوجد تيار إصلاحي يدعو إلى القيام بمراجعة للتاريخ يغذيه، من بين أمور أخرى غموض السلطات بشأن زيارة ضريح ياسوكوني (طوكيو)، حيث من بين جميع اليابانيين الذين لقوا حتفهم في الحروب الخارجية منذ عام 1869، يتم تكريم 14 مجرم حرب، بمن في ذلك الجنرال توجو.
كان رئيس الوزراء السابق جونيشيرو كويزومي (2001-2006) يذهب إلى هناك كل عام لزيارة ذلك الضريح، ما أثار استياء جيرانه، وخاصة الصينيين، حيث يعتبر الضريح المذكور في مختلف الدول الآسيوية رمزًا للعسكرة اليابانية.
في شهر أكتوبر من سنة 2008 صدر قرار بإقالة رئيس أركان القوات الجوية، الجنرال توشيو تاموغامي فورا بمجرد أن نشر للتو على شبكة الإنترنت كتابا «تصحيحيا» بعنوان هل كانت دولة معتدية؟
لقد اتهم هذا الجنرال أيضا الولايات المتحدة الأمريكية بأنها عمدت - بالتواطؤ مع الاتحاد السوفيتي - إلى وضع فخ لليابان، ونفى أن تكون اليابان قد شنت حربًا عدوانية في آسيا، كما برر إقامة منطقة نفوذ في آسيا وزعم أن الصين وكوريا كانتا ستستفيدان من ذلك. يبدو أن سلطات طوكيو قد سارعت إلى إقالة هذا الجنرال من أجل وقف سيل الانتقادات من الصين وكوريا الجنوبية ودول أخرى ضحية اليابان بين عامي 1937 و1945.
دبلوب
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك