كنا على موعد قبل أيام مع حدثٍ استثنائي لم يفوّت في أسرة الأدباء والكتاب على موعد مع شيخ السرد وأهم رواده الكاتب محمد عبدالملك الذي عاد إلينا قادما من غابات العزلة بثمار كثيرة ولذيذة حاملا إلينا سلة مليئة بما لذ وطاب من العذوبة والعذاب، تماما كسلّة الأب الحطاب أو العامل في الجبل حين يعود إلى أبنائه في المساء فيركضون إلى أحضانه ويتقاسمون ما في سلته من الهدايا.
محمد عبد الملك الذي على قصصه القصيرة المبكرة نشأ جيلنا يأتينا هذه المرة بما يقوم به المخرجون عادة في الحلقة بعد الأخيرة من الدراما المسلسلة وهو (شيء ما شفتوه) ليرونا ما وراء هذه السردية الدرامية التي معها قضينا ثلاثين حلقة، ليقولوا لنا: نعم هو فن وهو الهام لكنه هكذا صُنِع. كنا طوال هذه الفترة مع أعمال محمد عبدالملك نقرأ (النص) أما مع هذه الرواية فسنقرأ (الكتابة). كنا نتعامل مع الأثر أما هذه المرة مع رواية (متاهة الكيمياء) فسنصل إلى المؤثر إلى المصنع الذي فيه تتم سباكة المعنى.
يعرف الذين اعتادوا السباحة في العين منطقة خطرة هي قرار العين ومنبعها ويحاولون تجنبها لخطورة دوران تيار الماء فيها بينما سيقوم محمد عبد الملك بقذفنا في هذه المنطقة بالذات لنتعرف على لذة اكتشاف الخطر.
المؤلف إذن لم يمُت كما اختار (رولان بارت)، بل هو حي في جنة الحياة وجحيمها وفي البنية العميقة للنص هناك ستجد المؤلف رابضا كأسد يطل من لبدته الكثيفة على رعاياه وهم يلهون في مملكته ويعطيهم إمارات الطريق للوصول إليه، فإذا ما اقتربت أولى طلائع الوافدين إلى موقعه، قال لهم أهلا بكم، هنا، حيث البديل للكتابة هو الفناء ولا شيء بينهما. لا بل إن الكتابة هنا هي الشرط الأساسي للحياة.
يمرّ الكتاب والمبدعون عموما بفترات صمت تفرضها زيادة المعرفة حيث كما قال النفري: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. إنها لحظات تشبه ما قرأناه في سير بعض القديسين عن انقطاع الوحي الإلهي برهة من الزمن حتى ليشعر القديس أن السماء غاضبة عليه، ثم ينهمر الوحي متدفقا كنهر لا يكف عن الجريان.
رأينا هذا الاحتباس مع واحد من كبار شعراء فرنسا هو بول فاليري حيث جاءت أعجوبته (المقبرة البحرية) بعد صمت عن الشعر وبعد أن بلغ الخمسين من العمر، وهو مع كل شهرة هذه القصيدة العظيمة لا يعتبرها إلا مسودة غير مكتملة. وبعد أن اكتشفها ونشرها صديقه الكاتب والشاعر جاك ريفير اقتنع بول فاليري بها وضمها إلى ديوانه دون أدنى تعديل.
ثم هذا نجيب محفوظ بعد صمت دام بين 1952 و1959 جاءت رواية (أولاد حارتنا) ذات المعمار الملحمي، والتي لم نكن سنعرف لها كل هذه المكانة بين أعمال محفوظ لولا جائزة نوبل.
عن هذه المراوحة بين الاحتباس والتدفق وبين صمت الوحي الجوّاني وانبعاثه تحدثنا رواية محمد عبدالملك الجديدة (متاهة الكيمياء) حديث الكاتب لقرائه عن صناعة الكتابة في بوح شائق ثرّ لا تنفد لذته ويطل من ثناياه هذا الكاتب الذي عشقناه ووقعنا في شراكه الآسرة ولا خلاص لنا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك