مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
الدبلوماسية الاقتصادية.. وصناعة الأثر المستدام
في عالم الاتصال والتواصل تبقى صناعة الأثر هي الهدف المنشود لكل المؤسسات الرسمية والخاصة والاهلية من أجل تحقيق مستهدفاتها في تحقيق التنمية بشتى مجالاتها، عبر هندسة شبكات متنوعة من دوائر التأثير في مختلف الاتجاهات.
ومنذ بداية الألفية الثالثة، كانت الحكومات هي المعنية بشكل أساسي في تحقيق الأهداف الإنمائية، ولكن مع حلول 2015، وصدور تقرير الأمم المتحدة بعنوان «المضي في التقدم.. وبناء المنعة لدرء المخاطر» توافق العالم على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وبات القطاع الخاص والأهلي شريكا أساسيا في تحقيق هذه الأهداف باعتبارها الأداة الأكثر تأثيرا في كل مجالات التنمية، وباتت رؤيته وتقييمه للممارسات الحكومية التنموية محل اعتبار كبير لدى مختلف المؤسسات المالية الإقليمية والدولية، وكذا جميع المؤسسات ذات الصلة بالتنمية الإنسانية.
وبالتزامن مع الذكرى الخامسة والثمانين لتأسيس غرفة تجارة وصناعة البحرين كأقدم غرفة للتجارة في منطقة الخليج العربي، بات علينا أن ننظر بعمق إلى إحدى المؤسسات المؤثرة في الدوائر الاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية، في قراءة تحليلية لدور المؤسسات البحرينية المختلفة تجاه الملفات المختلفة.
على المستوى الداخلي لعبت الغرفة دورا مؤثرا في عدد من الملفات التي كانت تشغل الشارع التجاري، ولعل منها «الفيزا المرنة» تلك القضية التي مثلت عبئا على التاجر البحريني وخاصة صغار التجار والمقاولين، ونجحت في توضيح حجم المشكلة أمام السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكان قرار صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس الوزراء بإلغاء «الفيزا المرنة» من قلب الغرفة خير تعبير على تفهم وتقدير الحكومة لرأي القطاع الخاص، وهو ما تحقق كذلك في أمر سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بإلغاء رسوم استرداد كلفة البنية التحتية المرتبطة بإصدار رخص البناء، ووضع الحلول التمويلية لتوفير البنية التحتية في المناطق الجديدة وعند إصدار مخططات التقسيم.
وعلى الصعيد الإقليمي والدولي رصدنا تطورا واضحا في تفاعل المؤسسات البحرينية مع القضايا الإقليمية والدولية المرتبطة بالعالم العربي والإسلامي، وفي هذا الإطار من المهم الإشارة إلى ما أكده الأخ سمير ناس رئيس اتحاد الغرف العربية رئيس غرفة تجارة وصناعة البحرين خلال لقائه الأمين العام لغرفة التجارة الدولية «جون دينتون» في العاصمة الفرنسية باريس بشأن ضرورة خلق آلية جديدة لتعزيز حماية أصحاب الأعمال البحرينيين من مخاطر التعاملات الدولية وتوفير بيئة آمنة ومستقرة للاستثمارات الخارجية وفق أفضل الممارسات المتبعة عالميًا في هذا الصدد، فما من شك أن الحرص على تعزيز المنعة الاقتصادية مؤشر مهم على استمرارية النماء والتقدم والتطور في كافة المجالات الاقتصادية ويتطلب معه التمثيل القوى والمؤثر داخل دوائر صناعة القرار الاقتصادي العالمي، وهو ما تسعى له الغرفة في الوقت الراهن عبر الدفاع بأعضائها في المناصب القيادية داخل المنظمات الدولية ذات العلاقة وهو أمر محمود يستحق الإشادة والذكر، بجانب الحرص الحكومي على استكمال مسارات التنمية وتوسعة القاعدة الإنتاجية وتحقيق التنوع الاقتصادي المنشود بجانب تعزيز الجذب الاستثماري وتهيئة بيئة الأعمال.
وأضحت الدبلوماسية الاقتصادية إحدى القوى الناعمة التي تمتلكها الدول سواء لدعم التعاون بين الدول الحلفاء، أو كأداة لحل النزاعات بين الخصوم من دون اللجوء إلى القوة، ولعل النموذج الصيني يعد مثالا قويا في هذا الاتجاه، إذ نجحت بكين منذ سبعينيات القرن الماضي في الاعتماد على الاقتصاد كعمود رئيس في بناء استراتيجياتها الخارجية.
وحرصت مملكة البحرين على تعزيز دور القطاع الخاص ومؤسساته كشريك في صناعة القرار الاقتصادي داخل المملكة، من خلال تقوية دوائر الاتصال بين صانعي السياسات الاقتصادية في السلطتين التنفيذية والتشريعية ومؤسسات أهلية مهمة كغرفة تجارة وصناعة البحرين، وكان إلغاء «تصريح العمل المرن» شاهدا على هذا التعاون الذي يهدف إلى حماية المقدرات الاقتصادية للمملكة في السنوات الأخيرة وإزالة أي معوقات ضد التاجر البحريني.
وفي السنوات الأخيرة بزغ دور القطاع الخاص في تعزيز مكانة المملكة الرفيعة على مستوى العلاقات الثنائية أو على المستويين الإقليمي والدولي، وأصبحت مشاركة ممثلي غرفة البحرين في الزيارات الرسمية الخارجية لكبار المسؤولين أمرا معتادا في السنوات الأخيرة، وخاصة إذا أدركنا أن لغة أهل المال والاقتصاد هي اللغة الأقصر والأسرع في التقريب بين الشعوب في إطار مفهوم المصالح المشتركة بين الدول.
ومن خلال تحليل موضوعي لهذه الزيارات يرصد بوضوح وجلاء عددا من الثوابت التي حكمت تحرك غرفة البحرين المتمثلة في الآتي:
أولا: الترويج للبحرين كوجهة استثمارية مفضلة.
ثانيا: حماية مصالح التاجر ورجل الأعمال البحريني من مخاطر التعاملات الدولية.
ثالثا: تأمين مسارات متنوعة للتجارة البحرينية بما يضمن توفير احتياجات المملكة في شتى المجالات في ظل المتغيرات والتحديات التي تواجه التجارة العالمية.
رابعا: زيادة التأثير البحريني في المؤسسات الإقليمية والدولية ذات العلاقة بالشأن التجاري والمالي والاقتصادي.
خامسا: الدفاع عن القيم والثوابت الراسخة في العالمين العربي والإسلامي والتصدي لأي محاولات للغزو الثقافي عبر المنظمات الدولية.
والمتأمل في مشهد الزيارات الخارجية التي قامت بها غرفة البحرين خلال الشهر الماضي يلاحظ التطور النوعي في أداء الغرفة لأدوارها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، من خلال الترويج لبيئة الأعمال في المملكة والتشجيع على استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للمملكة، وخلق قنوات فاعلة للشراكات الاقتصادية في المجالات الحيوية التي تحتاج إليها المملكة، وخاصة في المجالات التي تمتلك فيها البحرين عناصر قوة تؤهلها للمنافسة الإقليمية والدولية على رأسها التكنولوجيا والاستثمار المالي والأمن الغذائي، من أجل التشجيع على بيئة البحرين الاستثمارية بصفتها مؤسسة أهلية تسهم في نمو حجم الاقتصاد وخلق فرص العمل النوعية للمواطنين بما يتناسب مع تطلعاتهم في تحسن مستوى المعيشة.
وإذا كان الموقع الاستراتيجي لمملكة البحرين أحد عوامل القوة الجاذبة للاستثمارات الخارجية، باعتبارها بوابة للمنطقة الخليجية، إلا أن هذا العامل كان يحتاج إلى عناصر أخرى لتعزيزه والترويج له أمام مجتمعات الأعمال عالميا، وهو الدور الذي اضطلعت به غرفة البحرين بوضوح من خلال استثمار زيارات سمير ناس رئيس الغرفة مؤخرا لبرلين وباريس وجنيف وعقد اجتماعات مهمة مع غرفة التجارة الدولية ومنظمة العمل الدولية ومنظمة التجارة العالمية ومنتديات اقتصادية أخرى، والتي استهدفت تعزيز مكانة غرفة البحرين على الخريطة الاقتصادية الدولية، إذ نجحت في الترويج الاستثماري الإيجابي لإمكانيات المملكة، كما حرصت على ترسيخ مسارات واضحة لخدمة أهداف المملكة التنموية من خلال العمل على توطين الصناعات ورفع معدلات التبادل التجاري وخلق آليات جديدة للشراكة مع القطاع الخاص البحريني.
وحملت اللقاءات التي جمعت الغرفة مع منظمة التجارة العالمية ومنظمة العمل الدولية وغرفة التجارة الدولية كثيرا من المعطيات اللافتة إلى وجود صوت تجاري بحريني وعربي متطور قادر على مخاطبة العالم بقوة من خلال مطالبته بخلق نظام تجاري عادل ومتعدد الأطراف يتيح للدول النامية استغلال مواردها المحلية في مجابهة الأزمات الحالية والمستقبلية، حتى تكون قادرة على امتصاص الصدمات التي تؤثر على خطط التنمية المستدامة فيها.
ولعبت الغرفة دورا فاعلا في التفاعل مع مختلف المنظمات الإقليمية والدولية ذات العلاقة بالشأن الاقتصادي، من خلال رئاسة سمير ناس اتحاد الغرف الخليجية ثم رئاسته اتحاد الغرف العربية، إذ نجح بشهادة جميع الدول الأعضاء فيها في أن ينقل نبض الشارع العربي إلى مختلف الأوساط التجارية العالمية ليعيد حساباته تجاه قضايا المنطقة.
وهنا أستذكر موقف الأخ سمير الحازم ضد محاولات منظمة العمل الدولية فرض ما يسمى التصنيفات الجندرية للعمالة، التي كانت غطاء لنشر مفاهيم المثلية الجنسية على العالمين العربي والإسلامي، إذ بدأ حملته لمناهضة هذه الأفكار الشاذة خلال اجتماعات منظمة العمل العربية، وأعلن بوضوح رفض السماح بإدخال المثلية، وخلال ترؤسه وفد الغرف العربية وغرفة البحرين المشارك في أعمال الدورة ( 111) لمؤتمر العمل الدولي بمقر الأمم المتحدة بجنيف في يونيو 2023 أعلن في حضور الدول الأعضاء في هذه المنظمة أنه انطلاقا من رفض المساس بمنظومة قيمنا وتقاليدنا ومواجهة أي غزو فكري يتعارض مع قيم شريعتنا الإسلامية السمحاء والفطرة الإنسانية السليمة، فإننا نؤكد الرفض القاطع لمحاولات البعض فرض إعادة تعريف مصطلح العامل لتشمل العمالة المثلية الجنسية، وفرض مساواتها في قوانين العمل الدولية بما يمس الأسس الأخلاقية الراسخة في عالمنا، ودعا إلى ضرورة أن تتوافق معايير العمل الدولية بشأن حقوق الإنسان مع ما لا يتعارض مع الهوية العربية والإسلامية والقوانين والتشريعات المنظمة والحاكمة للعديد من الدول الأعضاء، والتوقف عن ازدواجية المعايير والمفاضلة في وضع الأنظمة والتعريفات الدولية بدعوى قبول الآخر، وكفالة الحقوق والحريات بما يتنافى مع معايير القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة التي نصت على احترام سيادة الدول ومفاهيمها وثقافاتها.
ومن هنا ارتأى الأخ سمير بصفته رئيسا للغرف العربية وغرفة البحرين أهمية التمثيل العربي داخل المنظمات الدولية حتى يكون الصوت العربي حاضرا بقوة للدفاع عن قضاياه، وفي تحرك سريع للغرفة وجدنا الدفع بعضو مجلس إدارة الغرفة سونيا جناحي في منصب عضو أصيل في مجلس إدارة منظمة العمل الدولية ونائب رئيس المنظمة لأصحاب العمل عن آسيا، في تحرك دولي استراتيجي من الغرفة سيكون له الأثر المباشر في المستقبل القريب إذ إن رئاستها إحدى لجان صياغة التشريعات الدولية ستسهم في مجابهة كل ما يحاك أو ما هو ضد مصالح الأوطان العربية، وهنا أود أن أوجه تحية للغرفة على اختيارها آلية ترؤس اللجان داخل المنظمات الدولية كون اللجان هي المطبخ الحقيقي للتشريع الدولي؛ لأن أي مشروع يُعرض على المنظمة يتم تحويله إلى اللجنة المختصة التي بدورها تبدأ بمناقشته، وهذا يعني أن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق عضو الغرفة داخل هذه المنظمة فى الحفاظ على القيم العربية وصياغة التشريعات بما يتلاءم مع أعراف وتقاليد المجتمعات العربية.
كما أن هذا الدور المتنامي لغرفة البحرين يضع مسؤوليات على مختلف مؤسسات المجتمع المدني الأهلية وحتى التشريعية كل في مساره، بألا تتحول عضوية المؤسسات الدولية مجرد ديكور أو تفاخر بالمناصب أو فقط حضور لإلقاء كلمات، بل الدخول في عمق اللجان الدولية والمشاركة في صياغة التشريعات العالمية، وأنه على أي عضو في هذه المؤسسات أن يمثل تمثيلا صادقا ويدافع عن مصالح بلده وأمته، وأن يكون متفاعلا بصورة إيجابية في مجريات العمل الدولي داخل هذه المؤسسات حتى يترك الأثر المطلوب والصحيح فيها ويحمي مصالح وطنه، فمثلا الغرفة هنا دورها يتمثل في حماية أصحاب العمل من القوانين الدولية.
ويأتي هذا التفاعل التجاري البحريني مع قضايا وطنه وأمته متناغما مع الرؤية السامية لجلالة الملك المعظم رئيس القمة العربية الـ33 الذي حمل على عاتق جلالته مشاغل أمته العربية في هذه الظرفية التاريخية العصيبة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك