تحفل نظرية الاجناس الأدبية بتعدد الرؤى سواء ما يتصل بالمحاكاة أو البعد البيولوجي أو النظام المؤسساتي المستقل وسواء كنا نستعرض نظريات ارسطو أو رينيه ويلك أو جان ماري شيفير أو برونُتيير أو حتى تلك النظريات التي تركز على الوظيفة الاجتماعية والواقعية للنص الادبي التي ذهب اليها فلاسفة وأدباء الواقعية الاشتراكية أو مدرسة فرانكفورت وغيرهم واعنا هنا (لمختلف الاجناس الأدبية والفنية) فان ثمة ما يتصل (بالبعد الاجتماعي) لطريقة التعاطي مع الاجناس الأدبية أو اتخاذها (الشكل) المعبر عن امال وطموحات وازمات المجتمعات بمفاصلها المختلفة (الثقافية، السياسية، الاقتصادية، الروحية، التاريخية) اذ يمثل كتاب كل عصر مرحلة من مراحل التفاعل الأدبي والثقافي مع قضايا مجتمعاتهم وهذا ما يمكن ملاحظته منذ اتخاذ الملاحم والأساطير كثقافة للمجتمعات الحضارية الأولى التي كانت ترتكن إلى التفكير الذي يتسق مع الابعاد الخيالية والبطولية في تلك الاجناس (الملامح والأساطير) بما يعبر عن خلجات الإنسان الأول في تلك الحضارات والمجتمعات (تشبه إلى حد ما طبيعة مراحل الطفولة وما يجب ان يوجه لهذه المراحل من خطابات/ خيال وبطولة وتفاعل وتفكير...). وهو الأمر الذي ينطبق على ثقافة المجتمعات الاغريقية الأولى التي كانت تذهب باتجاه جنس أدبي ارستقراطي بمعنى الكلمة قائم على طقوس أداء وعملية تلقي (فرجة ارستقراطية لما يعرض من أفعال وقيم بخاصة تلك التي تتعلق بالأنظمة الحاكمة ومفهوم الوطن) وهو الفن المسرحي فكان رائجاً في تلك الحقبة المسرح والذي يقدم بفخامة شعرية عالية فكان الشعر موظف باتجاه الفن المسرحي والمسرح هو الشكل المعبر عن فخامة عصر الاغريق وحضارتهم والانسان اليوناني آنذاك، مثلما حفل العرب بمساحات الشعر والحفظ والالقاء البلاغي الفخم نتيجة للبيئات التي كان يعيشها الفرد العربي بخاصة في موضوعات الهجاء والتفاخر والرومانسية وغيرها التي تتركز بطبيعة الشخصية المنبثقة من البيئة العربية، والامر كذلك يذهب الى الثقافة الرومانية وهيمنة موضوعات العنف وإبراز القوة بطبيعة المجتمع الروماني القائم على التفاخر بالحروب وقوة السلطة الجسدية للمواطن الروماني فاندرجت تلك المفاهيم في أدبياتهم واجناسهم الأدبية التي اخذوها من الغير بالتأكيد ولاسيما الفن المسرحي الذي كان تقليداً واضحاً للإغريق ولكنه حفل بموضوعات الفحولة والقوة والعنف ومفاهيم المصارعة وإبراز القوة الجسدية، والأمر كذلك في ادبيات أمريكا اللاتينية وهيمنة جنس (الرواية) بل برعوا فيها وخرج منها ادباء كبار وصلوا للعالمية عبر (المحلية) ومن بينهم (ماركيز) فقد أصبحت الرواية مدونة أمريكا اللاتينية بل ان تلك الروايات هي الاعلى مبيعاً في العالم ونال كتابها الجوائز الأهم في العالم، ان لجوء كتاب امريكا اللاتينية إلى جنس الرواية بحكم الظروف التاريخية لتلك البلدان وبخاصة الاستعمارين البرتغالي والاسباني وما نتج عنه من تغيرات كبيرة في بنية تلك المجتمعات، وحتى هيمنة (الباروك) لحقب معينة جاء نتيجة الحاجة الى المزج بين الفكاهة والتعبيرات الادبية المبالغ فيها، ومثلما احتاجت المجتمعات والأمم الى (الشعر) لاستنهاض وتحريض الافراد كما يحصل في المقاومة للمستعمر واعتلاء الشعراء لمنصات الاحتجاج والمظاهرات والمسيرات المنددة بهذا الاحتلال فان العديد من الشعراء العرب كانوا قد استفادوا من جنس الشعر من اجل المقاومة الثقافية والتحريضية لأشكال الفساد والاحتلال المختلفة وهو ما يفرض الحاجة المجتمعية لاتخاذ الموضوعات اجناسها المتغايرة وفقاً لطبيعة وصول الشكل الادبي الأقرب إلى الجماهير (المتلقي) ونتيجة للمتغيرات في وسائل التعبير وقنوات التواصل بين منتج النص وبين الجمهور وبخاصة مع التطورات التكنولوجيا الحديثة والتي فرضت وسائل تعبيرية جديدة لمنتج النص (الخطاب) فهل سيكون الجنس المعاصر المفروض تكنولوجيا يمثل (هاشتاك/ ترند) والبوست القصير الذي يستسيغه القارئ عبر تلك النوافذ الإلكترونية والذي يتسم (بالبحث عن المختصرات) في ظل عالم ملئه الفوضى والملل والبؤس وأصبحت الحقيقة ذات وجوه واقنعة مختلفة وبمعايير متنافرة، اذ يمكن طرح تساؤل مهم للباحثين عن الجنس الملائم لهذا العصر من التحديات والتناقضات والذي ممكن ان يتناغم مع الاحتياجات الثقافية والمجتمعية لطبيعة المجتمعات المرقمنة في ظل كل هذه التطورات والقفزات المعرفية التي باتت تؤهل القيمة الصورية لتحل مكان القيمة المعرفية النصية في إيصال الأهداف والوظائف الفكرية للخطاب الأدبي والثقافي والقيمي، فهل ننجح بخلق جنس ادبي جديد يلائم كل هذه المتغيرات المتسارعة؟! بحيث يكون معبراً عن طبيعة الاحتياجات المعاصرة للمجتمعات المتحضرة تكنولوجياً.
{ ناقد وأكاديمي عراقي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك