«على كثرةِ أسفاري مازلتُ أفضلُ الجلوسَ بجانبِ النافذةِ ومراقبةِ المدنِ وهي تصغرُ تدريجيًا حتّى تتلاشى. قالتْ لندن: «تسافر كثيرًا يا أبي». لم أقلْ لها إنّنا في الغربة نتعرفُ على أنفسنا بشكلٍ أفضل كما في الحبِّ. لندن لا تعرفُ الكثيرَ عن الغربةِ، ولكنَّها تعرف بكلِّ تأكيدٍ عن الحبِّ»
جوخة الحارثيّة، (سيدات القمر).
(سيدات القمر) هي الرواية التي أنجزتها الروائيّة والأكاديميّة العُمانيّة الدكتورة جوخة الحارثيّة قبل بضع سنوات، وصدرتْ في نسختها العربيّة عن دار الآداب اللبنانيّة، وتنتمي هذه الرواية إلى النوع السرديّ (رواية الأجيال) لسيرة سردية متخيّلة في حياة أجيال عُمانية متعاقبة. ويمتدَّ السرد في إحالاته الزمنية من عشرينيات القرن العشرين إلى مطلع الألفية الثالثة من خلال حياة ثلاث شقيقات في القرية العمُانيّة «العوافي». وعلى الرغم من أنَّ جوخة الحارثيّة صرّحت في أحد لقاءاتها المتلفزة بأنَّها كي تنجزَ هذه الرواية عادتْ إلى عشرات المصادر والوثائق التاريخيّة التي أرَّخت تاريخ عُمان، وخاصة الوثائق التي تحدَّثت عن تجارة الرقيق إلا أنّها تعترف بأنّها لم تكن معنية بالسرد التوثيقيّ التسجيليّ المفصّل الأرشيفيّ لتاريخ محليَّ (تاريخ عُمان الحديث والمعاصر) قبل النفط وبعده. كانتْ جوخة الحارثيّة معنية بالتمثيلات الثقافيّة الكبرى التي يفصح عنها خطابها الروائيّ في تمثيلات كونية تتجاوز التواريخ المحليّة إلى الكونيّة العالميّة مثل كينونة الإنسان الحقيقيّة في رغبة كائنات هذه الرواية في الانعتاق من الحدود الضيقة إلى تقبّل الآخر على اختلافه، وسياسات الجنوسة (التذكير والتأنيث الثقافيين). ورصدتْ جوخة الحارثيّة من خلال سردها المتخيّل عالم القرية والمزارع والأفلاج والصحراء(البداوة).
تحتاج قراءة هذه الرواية جهدًا كبيرًا في التركيز للإمساك بخيوط السرد المتشعب الذي تنسجه الروائية بمهارة بالغة للغاية على الرغم من تعدّد وجهات نظر الشخصيات الروائيّة وتعدّد الأصوات السردية إلى درجة التداخل والتماهي في قصدية واضحة من الروائيّة للخروج عن الحبكة السردية المتسلسلة: ثمّة تقطيعات كثيرة زمنية في هذه الرواية من الاستباقات الزمنية والارتجاعات، تذكرتُ وأنا أقرأها رواية (البحث عن الزمن الضائع) للروائيّ الفرنسيّ مارسيل بروست التي يحتلّ فيها الزمن العنصر المهيمن.
وبعد تسع سنوات من النسخة العربيّة ل (سيدات القمر) فازت نسختها المترجمة إلى اللغة الإنجليزية بجائزة (مان بوكر الدوليّة)، مناصفة بين الروائية العُمانية جوخة الحارثية والمترجمة الأديبة والأكاديمية الأمريكية أستاذة دراسة العالم العربيّ المعاصر في جامعة أوكسفورد مارلين بوث. وعنوان الرواية في ترجمتها الإنجليزية هو ((Celestial Bodies. وقد وصفتْ رئيسة لجنة التحكيم بيتاني هيوز الرواية بقولها «الأجرام السماوية تتناول القوى التي تقيّدنا وتلك التي تحرّرنا».
ولابدَّ من التفريق بين جائزة البوكر العالميّة للرواية وبين جائزة Man Booker International prize؛ فجائزة البوكر العالمية تأسّستْ في بريطانيا عام 1968، وتُمنح لأفضل رواية كتبها مواطن من المملكة المتحدة أو من دول الكومنولث أو من جمهورية إيرلندا، وتفرعت عنها ثلاث جوائز عالميّة هي جائزة بوكر الروسيّة، وجائزة كاين للأدب الإفريقيّ، والجائزة العالميّة للرواية العربيّة التي أُطلِقَتْ في أبوظبي في أبريل 2007. أمّا جائزة مان بوكر الدولية فقد تأسّستْ رسميًا في بريطانيا عام 2005، وتُمنح هذه الجائزة كلَّ سنتين لرواية مترجمة، وتكون بالمناصفة بين صاحب العمل الأصليّ والمترجِّم. ويقتضي هذا الفوز وجود نص روائيّ استثنائيّ مغاير مع ترجمة استثنائية مغايرة أيضًا، وبدون هذا التكامل لا يحصل الفوز. لقد استغرقت كتابة هذه الرواية من جوخة الحارثيّة قرابة خمس سنوات، واستغرقت من المترجمة بضع سنوات قضتها في ترجمة نص صعب حافل بالكثير من مفردات اللهجة العُمانية المحلية. ومنجزتا هذا العمل كتابة النص الأصليّ وترجمته هما مبدعتان وأكاديميتان في الوقت نفسه، وهنا مكمن الإنجاز المتألق الذي لم يتأتَ سوى بعد سنوات من العمل الإبداعيّ والصبر عليه حتى يُنجز بما يليق به. إنَّ الرواية هي أصعب أنواع الكتابة السردية، وتحتاج بالفعل نفسًا طويلاً متأنيًا حتى تكون رواية جديرة بالبقاء والخلود، وهنا مصائر الروايات بعد عقود طويلة من كتابتها. إنَّ الأعمال الإبداعيّة المؤثِّرة التي تبقى في ذاكرة التاريخ السرديّ الكونيّ هي التي ستبقى بعد قرون عدة مؤثِّرة وفاعلة على الرغم من تغيّر الذائقة واختلاف الأجيال.
إنَّ فوز رواية (سيدات القمر) لجوخة الحارثية في نسختها المترجمة (أجرام سماوية) يعكس ذلك التفاوت الكبير في اختلاف ذائقة التلقي؛ فقد التفتت الأوساط النقدية الغربيّة بعمق إلى كون هذه الرواية رواية مغايرة وتستحق الفوز، وخاصة أنَّ هذه الأوساط معنية بالتواريخ المحلية والهويات الثقافيّة وتمثيلات الأنا والآخر. إنَّ خطاب جوخة الحارثي في أعمالها الروائية(منامات)، و(سيدات القمر)، و(نارنجة)، و(حرير الغزالة) هو نتاج يستحق التناول النقدي، ولا سيّما رواية الأجيال وخطاب التحولات الاجتماعيّة والثقافيّة الكبرى. لقد تُرجمت أعمالها الروائية والقصصية إلى لغات عالميّة مؤثِّرة؛ فعلى سبيل المثال نُشِرت الترجمة الإنجليزية لروايتها (نارنجة) في مايو 2022 بعنوان (Bitter Orange Tree)، كما بيعت حقوق ترجمة رواية (سيدات القمر) إلى أربع وعشرين لغة منها الفرنسية، والألمانية، والروسية، والصينية، والسويدية، والتركية، والآذرية، والبرتغالية، واليونانية، والكورية، والأندونيسية. جوخة الحارثية روائية خليجية مبدعة ومؤثِّرة.
أستاذة السَّرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كليّة الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك