العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كانت لنا أيام

تنشط‭ ‬قرون‭ ‬الاستشعار‭ ‬عندي‭ ‬كلما‭ ‬توشك‭ ‬سنة‭ ‬ان‭ ‬تلفظ‭ ‬أنفاسها‭ ‬الأخيرة،‭ ‬لأنني‭ ‬أهوى‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬أطلال‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬ينقضي‭ ‬لأتقصى‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬جسام،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬قط‭ ‬أن‭ ‬احتفلت‭ ‬برأس‭ ‬السنة‭ ‬أو‭ ‬مؤخرتها،‭ ‬لأن‭ ‬السنة‭ ‬‮«‬مؤنثة‮»‬‭ ‬وأنا‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬محافظة،‭ ‬وعيب‭ ‬أن‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬رأسها‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬دون‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكنني‭ ‬احتفلت‭ ‬بليلة‭ ‬رأس‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬واشتريت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬كعكة‭ ‬اسفنجية‭ ‬بخمسة‭ ‬ريالات‭ (‬في‭ ‬زمن‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬الريالات‭ ‬الخمسة‭ ‬تكفي‭ ‬لشراء‭ ‬دجاجة‭ ‬مجمدة‭)‬،‭ ‬وعصير‭ ‬جوافة‭ ‬مصنوع‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬ليست‭ ‬فيه‭ ‬شجرة‭ ‬جوافة‭ ‬واحدة،‭ ‬وجلست‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬المساء‭ ‬أمام‭ ‬التلفزيون‭ ‬أشاهد‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬انتصفت‭ ‬فيها‭ ‬الليلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬‮«‬مبكرا‮»‬‭ ‬في‭ ‬استراليا‭ ‬ونيوزيلندا‭ ‬والجزر‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬منها،‭ ‬وعند‭ ‬انتصاف‭ ‬الليل،‭ ‬قمت‭ ‬بـ«حركات‮»‬‭ ‬اللحظة‭ ‬الانتقالية‭ ‬مثل‭ ‬إطفاء‭ ‬الأنوار‭ ‬وإطلاق‭ ‬صرخة‭: ‬يييهوووو،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬سعيدا‭ ‬بالفعل‭ ‬لأن‭ ‬الله‭ ‬أكرمني‭ ‬بالعبور‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الذي‭ ‬ولدت‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬قرن‭ ‬جديد،‭ ‬وهأنذا‭ ‬ولله‭ ‬الحمد،‭ ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬23‭ ‬عاما‭ ‬وبضعة‭ ‬أشهر‭ ‬على‭ ‬دخول‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬حي‭ ‬أرزق،‭ ‬وأتمتع‭ ‬بصحة‭ ‬استطيع‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إنها‭ ‬جيدة‭ ‬رغم‭ ‬افتراءات‭ ‬بعض‭ ‬الأطباء،‭ ‬وقواي‭ ‬العقلية‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬‮«‬معقولة‮»‬،‭ ‬يعني‭ ‬‮«‬تمشي‭ ‬الحال‮»‬‭ ‬واستطيع‭ ‬أن‭ ‬أميز‭ ‬بين‭ ‬الأولاد‭ ‬والبنات،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الخطوط‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬الجنسين‭ ‬صارت‭ ‬باهتة‭ ‬أو‭ ‬هلامية‭.‬

وكوني‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬عصر‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬فيه‭ ‬بيتنا‭ ‬سوى‭ ‬الحطب‭ ‬للطبخ،‭ ‬والجاز‭ ‬الأبيض‭ (‬الكيروسين‭) ‬للإنارة‭ ‬بمصابيح‭ ‬قوة‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬الألف‭ ‬كيلو‭ ‬فولت،‭ ‬ولا‭ ‬يبلغ‭ ‬مدى‭ ‬ضوئها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أمتار‭ ‬إلا‭ ‬ربع،‭ ‬ثم‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬دخلتها‭ ‬ولمست‭ ‬زرا‭ ‬أبيض‭ ‬قرب‭ ‬بابها‭ ‬فصار‭ ‬‮«‬الليل‭ ‬نهارا‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬التقطت‭ ‬أداة‭ ‬صغيرة‭ ‬الحجم‭ ‬وضغطت‭ ‬على‭ ‬زر‭ ‬فيها،‭ ‬وتخيلت‭ ‬نفسي‭ - ‬ولفحات‭ ‬من‭ ‬الهواء‭ ‬البارد‭ ‬تلفح‭ ‬كل‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬جسمي‭ - ‬جالسا‭ ‬في‭ ‬شاطئ‭ ‬الريفييرا‭ ‬الإيطالية‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬ربيع،‭ ‬وحسناوات‭ ‬افتراضيات‭ ‬يتحرشن‭ ‬بي‭ ‬وهن‭ ‬كاسيات‭ ‬عاريات‭ ‬وأنا‭ ‬أغض‭ ‬الطرف‭ ‬ولا‭ ‬‮«‬أعبِّرهن‮»‬‭!! ‬يا‭ ‬ما‭ ‬أنت‭ ‬كريم‭ ‬يا‭ ‬رب،‭ ‬يا‭ ‬من‭ ‬ارتقيت‭ ‬بجعفر‭ ‬بن‭ ‬عباس،‭ ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬نوبية‭ ‬ابن‭ ‬آمنة،‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬الفحم‭ ‬الحطبي‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬النانو‭ ‬تكنولوجي‭.. ‬وقبل‭ ‬ثوان‭ ‬رن‭ ‬جرس‭ ‬باب‭ ‬بيتي‭ ‬فنظرت‭ ‬من‭ ‬النافذة‭ ‬لأعرف‭ ‬من‭ ‬يكون‭ ‬الطارق‭ ‬حتى‭ ‬أرتدي‭ ‬أفضل‭ ‬ثيابي‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬ضيفا‭ ‬يخصني‭ ‬وحدي،‭ ‬أو‭ ‬ألزم‭ ‬مكاني‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الضيف‭ ‬يخص‭ ‬‮«‬مدام‭ ‬كوري‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الطارق‭ ‬سوى‭ ‬طفل‭ ‬من‭ ‬الجيران‭ ‬جاء‭ ‬ليلتقط‭ ‬كرة‭ ‬سقطت‭ ‬داخل‭ ‬فناء‭ ‬بيتنا‭ (‬هي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬تسقط‭ ‬داخل‭ ‬فناء‭ ‬بيتنا‭ ‬نحو‭ ‬خمس‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬بدرجة‭ ‬أنني‭ ‬اقترحت‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يمارس‭ ‬لعب‭ ‬الكرة‭ ‬داخل‭ ‬بيتنا‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يبهدلنا‭ ‬بفتح‭ ‬الباب‭ ‬المتكرر‭ ‬ويتبهدل‭ ‬هو‭ ‬بطرق‭ ‬الباب‭ ‬المتكرر‭)‬،‭ ‬وأثناء‭ ‬البصبصة‭ ‬لمعرفة‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬رن‭ ‬الجرس،‭ ‬وقعت‭ ‬عيني‭ ‬على‭ ‬زهور‭ ‬ونباتات‭ ‬خضراء‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬بيتي،‭ ‬وتذكرت‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬نشأت‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬فنائه‭ ‬شجرة‭ ‬نيم‭ ‬يتيمة‭ (‬أتى‭ ‬الإنجليز‭ ‬بالنيم‭ ‬من‭ ‬الهند‭ ‬إلى‭ ‬السودان،‭ ‬ومن‭ ‬مميزاتها‭ ‬أنها‭ ‬تنمو‭ ‬بالتيمم،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬لغرسها‭ ‬وبعدها‭ ‬تنشر‭ ‬جذورها‭ ‬تحت‭ ‬الأرض‭ ‬لتحصل‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬بطريقتها‭ ‬الخاصة‭)‬،‭ ‬وأينما‭ ‬وجهت‭ ‬بصرك‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬ذاك‭ ‬وقعت‭ ‬عينك‭ ‬إما‭ ‬على‭ ‬دجاجة‭ ‬أو‭ ‬معزة‭. ‬وأتذكر‭ ‬جيدا‭ ‬أنه‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬دائما‭ ‬بين‭ ‬الماعز‭ ‬واحدة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬تحسبها‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬محافظة،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬ترتدي‭ ‬السوتيان‭ (‬الصدرية‭)‬،‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬ثقافتك‭ ‬ريفية‭ ‬مثل‭ ‬ثقافتي‭ ‬لعرفت‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بالحشمة‭ ‬بل‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المعزة‭ ‬لديها‭ ‬بيبي‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ (‬سخلة‭ ‬أو‭ ‬عتود‭) ‬وأن‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬السوتيان‭ ‬منع‭ ‬ذلك‭ ‬البيبي‭ ‬من‭ ‬شفط‭ ‬اللبن‭ ‬من‭ ‬ضرع‭ ‬أمه‭ ‬حتى‭ ‬يبقى‭ ‬لأهل‭ ‬البيت‭ ‬شيء‭ ‬منه‭ ‬لزوم‭ ‬الشاي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا