العدد : ١٧٠٥١ - الخميس ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥١ - الخميس ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

مشاريع.. استثمارية للآخرة!

بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح

الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ - 02:00

الموت‭ ‬ليس‭ ‬عدمًا‭ ‬مطلقًا،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬جسر‭ ‬ينقلنا‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الآخرة‭ ‬بدليل‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬كل‭ ‬نفس‭ ‬ذائقة‭ ‬الموت‭ ‬وإنما‭ ‬توفون‭ ‬أجوركم‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬فمن‭ ‬زحزح‭ ‬عن‭ ‬النار‭ ‬وأدخل‭ ‬الجنة‭ ‬فقد‭ ‬فاز‭ ‬وما‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬إلا‭ ‬متاع‭ ‬الغرور‭ (‬185‭) ‬لتبلون‭ ‬في‭ ‬أموالكم‭ ‬وأنفسكم‭ ‬ولتسمعن‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬أوتوا‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬قبلكم‭ ‬ومن‭ ‬الذين‭ ‬أشركوا‭ ‬أذى‭ ‬كثيرا‭ ‬وإن‭ ‬تصبروا‭ ‬وتتقوا‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬عزم‭ ‬الأمور‭ (‬186‭)) ‬سورة‭ ‬آل‭ ‬عمران‭. ‬

إذًا،‭ ‬فالحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬عمل‭ ‬وابتلاء‭ ‬،‭ ‬وأما‭ ‬الحياة‭ ‬الآخرة،‭ ‬فحساب‭ ‬وجزاء،‭ ‬ومن‭ ‬عظيم‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أنه‭ ‬سبحانه‭ ‬جعل‭ ‬للمسلم‭ ‬العاصي‭ ‬فرصًا‭ ‬عديدة‭ ‬للتكفير‭ ‬عن‭ ‬ذنوبه،‭ ‬ومجالًا‭ ‬لأن‭ ‬تتنامى‭ ‬حسناته،‭ ‬فترجح‭ ‬موازين‭ ‬حسناته‭ ‬على‭ ‬كفة‭ ‬سيئاته‭ ‬هذا‭ ‬فيما‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬ربه‭ ‬سبحانه،‭ ‬أما‭ ‬الذنوب‭ ‬فيما‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬العباد‭ ‬والتي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬توبة‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬للعبد‭ ‬المذنب‭ ‬رصيد‭ ‬من‭ ‬الحسنات‭ ‬يكفر‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬سيئاته،‭ ‬أو‭ ‬يعفو‭ ‬من‭ ‬له‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬والأمر‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬وقبله‭ ‬راجع‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬غفر،‭ ‬وإن‭ ‬شاء‭ ‬عذب،‭ ‬وقد‭ ‬يدخل‭ ‬المسلم‭ ‬النار‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ذنوب،‭ ‬ثم‭ ‬يدخله‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬الجنة،‭ ‬وأما‭ ‬الكفار‭ ‬والمشركين،‭ ‬فهم‭ ‬المحرومون‭ ‬من‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬الجنة،‭ ‬وهم‭ ‬الخالدون‭ ‬في‭ ‬النار،‭ ‬وأما‭ ‬المؤمن‭ ‬مادام‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الإيمان،‭ ‬فهناك‭ ‬رجاء‭ ‬عظيم‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يعفو‭ ‬أصحاب‭ ‬الحقوق‭ ‬عن‭ ‬المذنبين‭ ‬في‭ ‬حقهم،‭ ‬ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬الحسنات‭ ‬مرتبطة‭ ‬بأفعال‭ ‬العباد‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا،‭ ‬فإذا‭ ‬غيب‭ ‬الموت‭ ‬العبد‭ ‬المذنب،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أن‭ ‬ينشئ‭ ‬مشاريع‭ ‬استثمارية‭ ‬يستطيع‭ ‬العبد‭ ‬المذنب‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تغطية‭ ‬العجز‭ ‬في‭ ‬رصيده‭ ‬من‭ ‬الحسنات‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬يستثمر‭ ‬ما‭ ‬لدى‭ ‬العبد‭ ‬من‭ ‬رصيده‭ ‬من‭ ‬الحسنات،‭ ‬ومع‭ ‬ثبات‭ ‬رصيد‭ ‬السيئات‭ ‬واستثمار‭ ‬الحسنات‭ ‬يجعل‭ ‬الرجاء‭ ‬في‭ ‬النجاة‭ ‬من‭ ‬النار‭ ‬ودخول‭ ‬الجنة‭ ‬أمر‭ ‬متحقق‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭.‬

ولقد‭ ‬بشرنا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬بذلك‭ ‬فيما‭ ‬رواه‭ ‬

أبو‭ ‬هريرة‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭)‬،‭ ‬قال‭ ‬صلوات‭ ‬ربي‭ ‬وسلامه‭ ‬عليه‭: ‬‮«‬إذًا‭ ‬مات‭ ‬الإنسان‭ ‬انقطع‭ ‬عمله‭: ‬إلا‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬صدقة‭ ‬جارية،‭ ‬أو‭ ‬علم‭ ‬ينتفع‭ ‬به،‭ ‬أو‭ ‬ولد‭ ‬صالح‭ ‬يدعو‭ ‬له‮»‬‭ ‬رواه‭ ‬الإمام‭ ‬مسلم‭ ‬في‭ ‬صحيحه‭.‬

إذًا،‭ ‬فهناك‭ ‬استثمار‭ ‬دائم‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يحرص‭ ‬عليه‭ ‬المسلم،‭ ‬ليكون‭ ‬له‭ ‬ذخرا‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬للآخرة،‭ ‬وهنا‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الاستثمار‭ ‬فرصة‭ ‬لا‭ ‬تعوض‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬اعتدال‭ ‬موازين‭ ‬العبد‭ ‬التي‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬ولَم‭ ‬يوليها‭ ‬ما‭ ‬تستحق‭ ‬من‭ ‬العناية‭ ‬والمداومة‭ ‬عليها،‭ ‬ونحن‭ ‬أمام‭ ‬رصيد‭ ‬من‭ ‬السيئات‭ ‬وقف‭ ‬عند‭ ‬حده‭ ‬بموت‭ ‬العبد‭ ‬المذنب،‭ ‬ومشاريع‭ ‬استثمارية‭ ‬متنامية،‭ ‬والتي‭ ‬يرجو‭ ‬المسلم‭ ‬المخطئ‭ ‬نجاته‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬النار،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: (‬وأقمن‭ ‬الصلاة‭ ‬طرفي‭ ‬النهار‭ ‬وزلفًا‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬إن‭ ‬الحسنات‭ ‬يذهبن‭ ‬السيئات‭ ‬ذلك‭ ‬ذكرى‭ ‬للذاكرين‭) (‬هود‭ / ‬114‭). ‬

وقد‭ ‬يحظى‭ ‬العبد‭ ‬بمكافأة‭ ‬نهاية‭ ‬العمر‭ ‬لحسن‭ ‬سيرته‭ ‬وسلوكه‭ ‬في‭ ‬رحمة‭ ‬ربه‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬يقول‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭: (‬والذين‭ ‬لا‭ ‬يدعون‭ ‬مع‭ ‬الله‭ ‬إلهًا‭ ‬آخر‭ ‬ولا‭ ‬يقتلون‭ ‬النفس‭ ‬التي‭ ‬حرم‭ ‬الله‭ ‬إلا‭ ‬بالحق‭ ‬ولا‭ ‬يزنون‭ ‬ومن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬يلق‭ ‬أثاما‭ (‬68‭) ‬يضاعف‭ ‬له‭ ‬العذاب‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬ويخلد‭ ‬فيه‭ ‬مهانا‭ (‬69‭) ‬إلا‭ ‬من‭ ‬تاب‭ ‬وآمن‭ ‬وعمل‭ ‬عملًا‭ ‬صالحًا‭ ‬فأولئك‭ ‬يبدل‭ ‬الله‭ ‬سيئاتهم‭ ‬حسنات‭ ‬وكان‭ ‬الله‭ ‬غفورًا‭ ‬رحيمًا‭(‬70‭)) ‬سورة‭ ‬الفرقان‭. ‬وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬العبد‭ ‬قد‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬صدقة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬صغيرة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬عطاءها‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬حد،‭ ‬أو‭ ‬ترك‭ ‬أثرًا‭ ‬علمًا‭ ‬نافعًا‭ ‬ينير‭ ‬الطريق‭ ‬للسالكين،‭ ‬فإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديه‭ ‬مال‭ ‬أو‭ ‬علم‭ ‬ينتفع‭ ‬به‭ ‬الناس‭ ‬فلا‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬ولدًا‭ ‬صالحا‭ ‬يكون‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬الدعاء‭ ‬لوالده‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬مشاريع‭ ‬استثمارية‭ ‬لن‭ ‬يعدم‭ ‬الأب‭ ‬واحدًا‭ ‬منها،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬نجاته،‭ ‬وتؤثر‭ ‬في‭ ‬مدة‭ ‬بقائه‭ ‬في‭ ‬النار،‭ ‬وتأخر‭ ‬دخوله‭ ‬الجنة،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يعفو‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عنهم‭.‬

وبعد‭ ‬عزيزي‭ ‬لا‭ ‬تحتقر‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬صغيرها،‭ ‬فقليل‭ ‬دائم‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬منقطع،‭ ‬وإذا‭ ‬قارنا‭ ‬ذلك‭ ‬بطول‭ ‬الأمد‭ ‬الذي‭ ‬يبقى‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬قبره‭ ‬حتى‭ ‬يوم‭ ‬البعث،‭ ‬فذلك‭ ‬زمن‭ ‬ليس‭ ‬محدودا،‭ ‬وهذا‭ ‬ينبهنا‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬عمل‭ ‬الصالحات،‭ ‬فمهما‭ ‬كان‭ ‬حكمها‭ ‬صغيرًا،‭ ‬أم‭ ‬قليلًا،‭ - ‬فهي‭ ‬عند‭ ‬الله،‭ ‬كثيرة‭ ‬ويتعاظم‭ ‬خيرها‭ ‬وتثقل‭ ‬موازين‭ ‬العبد‭ ‬يوم‭ ‬القيامة،‭ ‬فإذًا‭ ‬أضفنا‭ ‬إليها‭ ‬تحويلً‭ ‬السيئات‭ ‬إلى‭ ‬حسنات‭ ‬المذكورة‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الفرقان‭ ‬في‭ ‬الآيات‭ (‬68‭ ‬،‭ ‬69،‭ ‬70‭) ‬ثم‭ ‬أضفنا‭ ‬إليها‭ ‬ما‭ ‬وعد‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عباده‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭: (‬‮…‬‭ ‬إنما‭ ‬يوفى‭ ‬الصابرون‭ ‬أجرهم‭ ‬بغير‭ ‬حساب‭) (‬سورة‭ ‬الزمر‭ / ‬10‭) ‬وفهمنا‭ ‬العبارة‭ ‬{‭.. ‬بغير‭ ‬حساب}‭ ‬على‭ ‬أنها‭: ‬تأتي‭ ‬مرة‭ ‬بلا‭ ‬عَدٍ‭ ‬أي‭: ‬بلا‭ ‬حصر،‭ ‬وتأتي‭ ‬مرة‭ ‬بمعنى‭ ‬بلا‭ ‬حساب‭ ‬ولا‭ ‬عقاب‭. ‬

ذلكم‭ ‬هو‭ ‬الإسلام،‭ ‬وذلكم‭ ‬هو‭ ‬عطاؤه،‭ ‬وتلك‭ ‬رحمته‭ ‬وغفرانه‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا