بعد نحو ستة أشهر من طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرات اعتقال دولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه -آنذاك- يوآف جالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة؛ أعلنت لجنة من كبار قضاة المحكمة أواخر نوفمبر2024 مسؤوليتهما الجنائية المباشرة عن استخدام التجويع، كأسلوب من أساليب الحرب، إلى جانب القتل والاضطهاد؛ والعديد من الجرائم ضد الإنسانية.
ووصف جوليان بورجر، وأندرو روث، في صحيفة الجارديان، القرار بأنه الأكثر أهمية، للمحكمة في تاريخها الممتد 22 عامًا. وبعيدًا عن الأهمية الرمزية، لإصدار المساءلة الدولية، ضد حكومة ظلت لعقود بمنأى عن النقد والعقاب من قبل حلفائها -وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا- فإن التأثير العملي لقرارها لا يزال غير محدد.
ومن المتوقع أن ترفض واشنطن، الحكم. ومع استجابة إدارة بايدن، ومسؤولي الحزب الجمهوري على الفور بترديد الاتهامات الإسرائيلية -التي لا أساس لها من الصحة- للمحكمة بمعاداة السامية؛ رأى آرون ميلر، من مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، أن القرار وضع في الاعتبار نهج إدارة ترامب القادمة، التي تحتقر بالفعل المحكمة، والأمم المتحدة، وستحمي نتنياهو شخصيا من المساءلة الدولية أكثر مما فعلت حكومة بايدن.
ومع غياب الزعامة الأخلاقية والسياسية الأمريكية لدعم القانون الدولي، رأى أنتوني دوركين، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن الامتثال لقرار المحكمة، وصمودها أمام التهديدات العقابية، يُشكل اختبارا للمبادئ الأوروبية. وبالرغم من إعلان بعض الحكومات الغربية، دعمها للحكم، وتأكيدها تنفيذ أوامر الاعتقال حال كانت في وضع يسمح لها بذلك؛ فمن الجدير بالملاحظة، كيف كان رد حكومات بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، غامضا وغير ملتزم؛ ما أدى إلى تقويض قدرات، وإجراءات ليس فقط المحكمة؛ لكن أيضًا جميع المؤسسات القضائية الدولية المستقلة الأخرى.
وفيما وصفت مجلة الإيكونوميست، الحكم بأنه كارثة دبلوماسية لإسرائيل، اعترف فرانك جاردنر، من شبكة بي بي سي، بأنه ضربة كبيرة لمكانتها الدولية. وأعلن ثلاثة قضاة في الجنائية الدولية، الأسباب المنطقية للاعتقاد بأن نتنياهو، وجالانت، حرما السكان المدنيين في غزة عمدًا وعن علم من الوسائل الضرورية لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك الغذاء، والماء، والدواء، والكهرباء، والوقود. واستشهدت الإيكونوميست، بأن قرار المدعي العام الرئيسي، لإصدار مذكرات الاعتقال ضدهما قد تعززت، مع تواصل الوضع الإنساني المتدهور في غزة، وتحذير الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، تكرارًا من قطع المساعدات عن ملايين المدنيين خلال الأيام الأربعين الماضية.
من جانبها، علقت ليلى السادات، المستشارة السابقة بـالجنائية الدولية، على حكم المحكمة على اثنين من كبار المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين، بأن ذلك يأتي على عكس الأفراد من الرتبة الأدنى، بالنظر إلى حجم الجرائم التي ارتكبوها. وسلطت بلقيس جراح، من منظمة هيومن رايتس ووتش، الضوء على أهمية هذه الأحكام في رفض التصور القائل بأن بعض الأفراد فوق القانون الدولي.
ومع دعوة المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية، بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيزي، لإصدار أوامر اعتقال، بحق مزيد من المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين؛ أعربت جراح، عن أملها في أن يسهم ذلك في دفع المجتمع الدولي، لمواجهة الفظائع، وضمان العدالة لجميع الضحايا، مؤكدةً أن قدرة المحكمة على الوفاء بتفويضها بشكل فعال لمحاسبة حكومة إسرائيل على ما ارتكبته بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة؛ ستعتمد على استعداد الحكومات لدعم العدالة، بغض النظر عن مكان ارتكاب الانتهاكات، أو هوية مرتكبيها.
من جهته، أشار دوركين، إلى أن إصدار أوامر اعتقال مثل هذه سيُحدث ضغوطًا سياسية كبيرة على المحكمة الجنائية الدولية. وسيكون هذا الضغط أكثر حدة من جانب الولايات المتحدة. ووصف جو بايدن، قرارها بـالشائن، وأكد أن حكومته ستظل دائمًا مع إسرائيل ضد أي تهديدات لأمنها. وبالنظر إلى الطريقة التي دافعت بها إدارته عن حروب إسرائيل، رغم الخسائر البشرية الفادحة والأضرار المادية، وتراجعها عن تهديدها بقطع المساعدات العسكرية لها، ما لم تُزود مساعداتها الإنسانية إلى غزة -وهو ما لم تفعله إسرائيل- فإن هذا الموقف المتكرر لا يعد مفاجئًا، ولا يُتوقع أن تتخذ واشنطن، أي تدابير جدية لوقف، أو معاقبة المحكمة.
وفي حال تولى دونالد ترامب الرئاسة في يناير 2025، كتب بورجر، وروث، أن نتنياهو، يمكنه أن يتوقع المزيد من الدعم القوي، في حملته ضد الجنائية الدولية، مشيرين إلى فرض البيت الأبيض، في عهده، عقوبات على مسؤولي المحكمة، وعائلاتهم؛ بسبب التحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان. علاوة على ذلك، تلقت الهجمات ضد القضاة والمدعين العامين وموظفي المحكمة، دعمًا من كبار الجمهوريين في الكونجرس الأمريكي. وهدد رئيس مجلس النواب، مايك جونسون، بالفعل بـرد قوي، ضد ما يزعم أنه تحيز معاد للسامية، من جانب المحكمة. وعلق زعيم مجلس الشيوخ، جون ثون، بأن الأولوية القصوى، بالنسبة له ستكون إعادة فرض مزيد من التشريعات التي تطبق العقوبات الاقتصادية، وحظر السفر ضد موظفي المحكمة وأقاربهم.
وفي مواجهة حملة الإكراه، والترهيب المتصاعدة التي تشنها واشنطن دعما لإسرائيل؛ فإن دور الدول الـ124 الموقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة، أمر بالغ الأهمية. وفي حين أوضح بورجر، وروث أن نتنياهو، وجالانت، أصبحا الآن معرضين لخطر الاعتقال، إذا سافرا إلى أي من الدول الموقعة، فإن هذا ليس أمرا حتميا ينبغي أن نتوقعه، كما يتضح من الطريقة التي تم بها الترحيب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين -الصادر بحقه أمر اعتقال دولي- في منغوليا في سبتمبر 2024 على الرغم من أن الدولة المضيفة عضو في الجنائية الدولية.
وكما كتب دوركين، باعتبارها داعمة تاريخية للمحكمة وسيادة القانون الدولي؛ فإن جميع الدول الأوروبية -حتى الأكثر تأييداً لإسرائيل- يجب أن توضح أنها تدعم المحكمة، كهيئة قضائية مستقلة، وأنها ستنفذ أوامر الاعتقال. ومع تصريح رئيس السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، بأن الدول الأعضاء يجب أن تنفذ أوامر الاعتقال؛ فمن الجدير بالملاحظة، كيف سارعت حكومات إيطاليا، وإيرلندا، وبلجيكا، وهولندا، إلى التأكيد بأنها ستعتقل نتنياهو، وجالانت، إذا سافرا إلى بلدانها.
على الجانب الآخر، وصف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان قرار المحكمة بأنه تشهير كامل، ودعا نتنياهو لزيارة بودابست. ورغم أن دعمه لنتنياهو ليس مفاجئًا، إلا أن الصمت النسبي من قبل الحكومات الغربية الكبرى تجاه إصدار الجنائية الدولية أوامر اعتقال، بحق المسؤولين الإسرائيليين، يعد مصدر قلق كبير بشأن موقفها الداعم.
وفي المملكة المتحدة، أثارت رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم، إميلي ثورنبيري، من حزب العمال كيف أنه إذا جاء رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى بريطانيا فإن التزامنا بموجب اتفاقية روما، هو اعتقاله بموجب مذكرة الجنائية الدولية، وأن القيام بذلك ليس مسألة تقبل الشك، حيث إن بريطانيا مطالبة بذلك لأنها ضمن أعضاء المحكمة. ومع ذلك، أكد المتحدث باسم رئيس الوزراء كير ستارمر، فقط أن بلاده ستفي بالتزاماتها القانونية، فيما يتعلق بمذكرات الاعتقال. وعندما سُئلت مباشرة، رفضت وزيرة الداخلية البريطانية إيفيت كوبر، أن تقول ما إذا كان سيتم اعتقال نتنياهو أو جالانت، إذا زارا المملكة المتحدة.
وبالمثل، رفضت وزارة الخارجية الفرنسية، تأكيد أنها ستعتقل المسؤولين الإسرائيليين، وأصدرت بدلاً من ذلك، بيانًا غير ملزم، بأنها ستتصرف بما يتماشى مع قوانين المحكمة، في حين علقت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، أن حكومتها تفحص مذكرات الاعتقال حتى الآن.
ونظرًا إلى إدانة هذه الحكومات بشكل قوي لحرب روسيا على أوكرانيا، ودعمها بحماس للمحكمة الجنائية، لإصدار مذكرات اعتقال ضد بوتين، وكبار مسؤوليه، بتهم ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية؛ أكد دوركين أن تنصل الدول الأوروبية الآن من المحكمة، بعد تحميلها إسرائيل المسؤولية، سيؤدي إلى تقويض مصداقيتها، مضيفا أن هذه الدول يجب أن تستعد الآن لمواجهة هجوم أمريكي ضد المحكمة، من خلال تأكيد رفضها أي ضغط سياسي، عليها وعلى مسؤوليها.
ومع ذلك، فإن توقع اتخاذ هذا الإجراء من الحكومات الغربية، التي دعمت بشكل علني حرب إسرائيل في غزة، والهجمات ضد المدنيين الفلسطينيين في الفترة الماضية، وتمسكت بموقف الولايات المتحدة، يكشف عن تضحيتها بأي مواقف أخلاقية، كانت تدافع بها عن القانون الدولي، وحقوق الإنسان، حيث أصبحت تتواطأ في الدمار الذي لحق بغزة وبقية الأراضي المحتلة.
ونظرًا إلى عدم وضوح النوايا الكاملة لبعض كبار الموقعين على نظام روما، بشأن مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو، وجالانت؛ فإن تأثير قرار المحكمة في محاسبة إسرائيل على ما اقترفته بحق المدنيين الفلسطينيين يبقى غير معلوم. ومع تعهد نتنياهو، بعدم التوقف عن قصف واحتلال الأراضي الفلسطينية، فإن المعاناة ستستمر. وفي ظل تأكيد واشنطن، استعدادها لتزويد إسرائيل بالوسائل اللازمة لتفاقم هذا الدمار؛ فإن إشارة دوركين، إلى أن الحكومات الأوروبية تتبع سياسة تجنب الاتصال غير الضروري، مع الحكومة الإسرائيلية، تظل استجابة غير كافية، خصوصًا بعد أن تم الحكم على كبار مسؤوليها بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك