مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
الوجه الحقيقي للنيابة العامة
تعقيبًا على ما نشرناه يومَ أمس من مقابلةٍ صحفيَّةٍ مطوَّلة مع النائبِ العام الدكتور على البوعينين، الذي شرحَ بالتفصيل الدورَ الكبيرَ الذي تمارسه النيابةُ قضائيًّا واجتماعيًّا - تبيَّن لنا أن هناك حقائقَ غائبةً عن القرَّاء والمجتمعِ عن دورِ النيابةِ الإنسانيِّ الراقي والبنَّاء في دراسةِ حالة المجتمع من خلال القضايا المنظورةِ ذات الأبعادِ الاجتماعيَّة، ذلك الدورُ الإنسانيُّ التي تؤديه النيابةُ العامة يتجاوزُ حدودَ عملِها القانونيِّ والقضائيِّ المرسومِ ذهنيًّا لدى الغالبيَّةِ العظمي، كونه يلامسُ جوهرَ إصلاح الإنسانِ واستقرار المجتمع.
ولأجلِ أن نكونَ منصفين، فإننا حتى في الصحافةِ لم نكن نعلمُ أن الوجهَ الآخر للنيابةِ العامة هو دورُها في تقديمِ الرعايةِ الاجتماعيَّةِ وبحث كل حالة تباشرُها على حدة، سواء الأسر المتصدعة أو المرأة المعنفة وجنوح الطفل، وهي الحالاتُ التي قاربت من 250 حالةً إنسانيَّة تم التعاملُ بشكل إنسانيِّ وتقديم الخدماتِ الاجتماعيَّة لهم من قِبل صرحٍ قضائيٍّ كبير عبر شركاء في ذلك النجاح.
تلك الحقائقُ يتولى أمورَها ليس فقط رجالُ قانون ومحققون، بل أخصائيون ومهنيون في حقولٍ اجتماعيَّةٍ مختلفة كعلم النفس والاجتماع، وهم أكثرُ درايةً بكيفيةِ التعاملِ مع تلك الحالات - كيف تتمُّ المحادثةُ بين المحقق والأخصائي الاجتماعي بشكلٍ غير ظاهر للاطمئنان على طفلٍ وقع ضحيَّةَ جريمة، وكيف يمكنُ التعرفُ على ما في خاطرِه من خوفٍ أو رهبة - وكيف تتعرفُ المجني عليها وهي طفلةٌ على الجاني من دون أن تشعرَ بذعرٍ أو قلق، عن طريق دعمٍ إنسانيٍّ واجتماعيٍّ وقانوني يساعدُها في عبورِ محنتها.
مع الأسف الشديد إن اسمَ النيابةِ العامة عند الكثير اسمٌ مخيف بل يعدُّه البعض «سيف جلاد» ولكن بعد زيارتي الشخصيَّة والاطلاعِ على تلك الجهودِ الإنسانيَّة من النائب العام ومشاهدةِ العرضِ المرئيِّ للخدمات المقدمة يمكنني أن أجزمَ أننا أمام مبادرةٍ بحرينيَّةٍ خالصة لا أظن أنها شُرعت في كثيرٍ من الدولِ العربية، بل إنها مبادرةٌ استفادت من التجربةِ الأيرلندية ووضعت في اعتبارها التقاليدَ والأعرافَ والدينَ بما يتناسبُ مع طبيعتِنا وبشكلٍ يهدفُ إلى صلاحِ الإنسان والمجتمع.
مبادرتُنا البحرينيَّةُ الإنسانيَّة التي ترعاها النيابةُ العامة مختلفةٌ كليًّا عن التجاربِ الدوليَّةِ القليلة التي تقدِّم رعايتها للمستفيدين بعد انتهاء عقوبتهم، لأن مبادراتِ النيابة تستبقُ وقوعَ الجريمةِ بدراسة دوافع ارتكابها بل والعمل على منعها من خلال اللحظةِ الأولى لأي تحقيقٍ يشملُ جوانبَ اجتماعيَّةً أو إنسانيَّة أو يرصدُ أيَّ ظواهر قد تنتهي بوقوع الجريمة.
ما ترصدُه النيابةُ العامة من حالاتٍ اجتماعيَّة تستدعي التدخلَ والتعاملَ الإنسانيَّ معها، يجعلنا نقفُ أمام حالاتٍ اجتماعيَّة صعبةٍ تتطلبُ من الجميعِ دعمَ تلك المبادراتِ التي تكشفُ عن واقعٍ يجبُ التدخل والمساعدة في معالجته، ما سبق وكشفته تلك المبادرات مثل حالات استغلال أطفال في أعمالٍ غير مشروعة وأطفال بلا أوراق هوية يدفعون ثمنَ تفكك أسري ومنع حق التعليم عنهم، أو زوجة لم تجد مأوى لها ولأطفالها بسبب خلافاتها الزوجية، تلك الحالات تستدعي تدخلا مجتمعيا شاملا لرأب ذلك الصدع.
اللقاء مع النائب العام أمس لم يساعدنا على رصد دور النيابة القانوني والإنساني فقط، وإنما يمكنُ أن نقرأ ما بين سطور اللقاء وكيف يصلُ أعضاءُ وعضوات النيابة إلى النجاح - ما شاهدته من حرص النائب العام على تقديم شبابٍ رؤساء لنيابات تخصصيَّة ودعمِه لهم في عرض جهود وآليات عملهم يؤكِّدُ بما لا يدع مجالا للشك أن ذلك الصرحَ القضائي يُدار باحترافيَّةٍ وتعاونٍ يُجبرُ من يدخل تحت مظلتِه على النجاح.
أن نرى ذلك الحماسَ والحرصَ على أدق التفاصيلِ المتعلقة بالجوانب الإنسانية من أعضاء النيابة العامة أصحاب المهام القضائيَّة الأصيلة، يؤكد لي أن تلك الجهودَ تُبذل من خلال قناعة بأن ذلك الجانبَ الإنسانيَّ ضمن واجباتهم في توفير الحمايةِ والرعاية أثناء مباشرتهم مهامهم القضائيَّة؛ وأن دورَ عضو النيابة يمتدُّ إلى المساهمةِ في رعايةِ الطفل والمرأةِ والأسرة، من خلال قراءة واقع الدعوى الجنائيَّة من منظورٍ إنسانيِّ واجتماعيِّ ودراسةِ سبب وقوع الجريمة أو الوقوع ضحيتها وإبداء توصية لمنع تكرارها بهدف استقرار المجتمع.
هذا التقدُّمُ الإنسانيُّ الكبير كان يجبُ أن يعرفَ المجتمعُ به، ولكن مثل ما عنونا المقابلةَ أمس بأن النائبَ العام يجري أولَ لقاءٍ صحفي له فهذا يدل على أن رجالَ النيابةِ العامة رجالاتٌ للعمل وليس لإبراز أنفسهم، إلا أن بروزَ مثل تلك الجهود والكشف عنها مسؤوليَّةٌ وطنيَّةٌ واجتماعيَّةٌ وتاريخيَّة يجبُ أن تؤرِّخَ عنها الصحافةُ وترصدَ المتغيراتِ على الساحةِ الاجتماعيَّةِ وتبرزَ الذين نذروا حياتهم من أجلِ إصلاحِ المجتمع.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك