مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
غــــــزة بين الفنـــاء والبقــاء
العملُ العسكريُّ الإسرائيليُّ مدعومًا بالتأييدِ المطلقِ من الدولِ الأوروبيَّة والولاياتِ المتحدةِ الأمريكية، وبشحناتِ الأسلحة التي تم إرسالُها على متن الطائراتِ في الأيام الماضية، يسعى إلى إزالةِ الحياة عن غزة.
غزة يصلُ حجمُها إلى أقل من نصف مساحة البحرين، وبكثافةٍ سكانيَّة أكثر من مليوني إنسان، لذا فإن عددَ الشهداءِ من الأطفال والنساء والرجال والشيوخ سيكون بمئاتِ الألوف.
هل العالمُ الغربيُّ، وبالتحديد أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وصلَ إلى هذه الدرجةِ من اللاإنسانية؟!
مؤتمرُ يوم أمس الأول في القاهرة، كشف بصورةٍ جلية، أن الغربَ يرى أن قتلَ أهل غزة «حلالٌ عليهم»، وهنا استعملنا كلمةَ «حلال»، لأن العقلَ البشريَّ يعجزُ عن تصوُّرِ الهول المخيف للحصيلة النهائية لهذه العمليةِ الوحشيَّة!
نقولُ هذا، في الوقت الذي تشهدُ فيه فلسطين أعلى قدرٍ من الدفاع عن عدالةِ هذه القضية، وهو ما لم تشهدُه طيلةَ 7 عقودٍ من وجودِ إسرائيل، بل نقولُ هذا، ولأول مرة نرى أن المحطاتِ الإخباريَّةَ الغربيَّةَ تقدِمُ على فرضِ رقابةٍ شديدة على نشر الصورِ والأخبار المرسَلةِ إليهم من وكالاتٍ أجنبية وأفراد لكشف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، كما ترفضُ تقبُّلَ هذه الأخبار أو بثها.
بل دفع الصمتُ الغربيُّ عن الفظائعِ المرتكبة بحق المدنيين الفلسطينيين، عددًا كبيرًا من الموظفين في وزارات خارجية هذه الدول إلى الاحتجاج عند رؤسائهم، وأقدمَ عددٌ منهم على الاستقالةِ لرفضهم القيودَ المفروضة على أعمالهم اليومية.
أعدادُ المتظاهرين في العواصمِ الأوروبيَّةِ المختلفة، وكذلك في بقيةِ المدن شرقًا وغربًا، خرجت تأييدًا للفلسطينيين وتعبيرًا عن التعاطفِ الإنسانيِّ، ومع ذلك فإن الحكوماتِ الغربيَّة لا تضعُ اعتبارًا لنداءاتِ شعوبها.
إن الإصرارَ الغربيّ الحكومي على تدميرِ وقتلِ الفلسطينيين وإبادتهم من الوجود، هل هو نابعٌ من ولائهم لإسرائيل، أم أن هذه الكراهيةَ متأصلةٌ في نفوسِ المسيسين من ذوي العقليةِ الاستعماريَّة؟!
هذه العقليةُ التي تحاولُ تكرارَ ما فعله أسلافهم بين القرنين التاسع عشر والعشرين من جرائمَ بحق عديدٍ من دول الشرق، ولا ننسى ما أقدمَ عليه الاستعمارُ من قمع في الهند عام 1857 لإخماد الثورةِ الهندية العظيمة، وطال اثنائه القمع أكثر من سنة، وأُبيد خلالَه من أبناء الهند عشراتُ الألوف، والعجيب أن كلَّ رجالاتِ الهند العظماء وُلدوا بعد إخماد الثورة، بداية من المهاتما غاندي، روبندرونات طاغور، محمد علي جناح، ذاكر حسين، وأبو الكلام آزاد، وهم الذين وقفوا ونادوا باستقلال الهند، حتى تحقق في عام 1947، إلى جانب محمد علي جناح الذي أسس باكستان، وكلكم تعلمون ماذا جرى في الجزائر، على مدار 7 سنوات من أجل التحرر، وقدمت الجزائر أكثر من مليون شهيد.
ألم تتعلموا من هذه الحقبةِ التاريخيَّة الماضية شيئا من الدرس؟!
علما بأن الإسرائيليين في فلسطين المحتلة ليسوا أبناءَ هذه الأرض، بل هم نتيجةُ الهجرة اليهودية هربًا من أحكامِ القمع الأوروبيِّ لليهود في بلدانهم الأصلية، وهؤلاء اليهود هم من أصولٍ ألمانية، بولندية، فرنسية، وإنجليزية، وهكذا.
ويستطيعُ الإنسانُ أن يقولَ إنهم يريدون التخلصَ من أخطائهم وجرائمهم، على حسابِ العرب والفلسطينيين.
نحن في عالمٍ كثير التغير، وللإنصاف والحق، هناك في إسرائيل من يعارضُ وحشيةَ حكومتهم.
وبصفتي شخص عاصر الجرائمَ الإسرائيلية على مدار سنواتٍ طويلة خلال القرن الماضي والحالي، نرى أن ما سيحدثُ في الأيامِ القليلة القادمة، سيغيِّرُ مفهوميةَ كثير من المسؤولين العرب تجاه الغرب، إذ إنهم رأوا بأعينهم الازدواجيةَ الغربيَّة، التي تفرقُ بين قيمةِ الإنسان الإسرائيليِّ والإنسان الفلسطينيِّ، هذه الازدواجية التي تهدمُ أسسَ القانونِ الدولي الإنساني، واتفاقياتِ ومعاهدات حقوق الإنسان، التي كانوا يتشدقون بها مرارًا وتكرارا.
ما نراه اليوم من جرائمَ إسرائيليَّة برعايةٍ غربيَّة يؤكِّدُ بما لا يدعُ مجالا للشك سقوطَ كلِّ أقنعةِ النظام العالميِّ الذي تأسسَ أعقاب الحرب العالميَّة الثانية بكل قوانينه وقيمه ومنظوماته الحقوقية، وأن البشريةَ تحتاجُ إلى نظامٍ أكثر عدالة ومساواة، وأن يتخلصَ العالمُ من الفوقيةِ التي يمارسُها أهلُ الشمال تجاه الجنوب، وعلينا أن نظلَّ متحدين وراء قضيتِنا وأن يكونَ لنا صوتٌ واحد لنتشاركَ بفعاليةٍ في أي نظامٍ جديد، وكفى فرقة وتفرق وراء أهدافٍ ضيقة تقزم من قدراتنا وإمكاناتنا كشركاء في صناعة المستقبل.
على مدار أكثر من 15 يومًا، سقطت محطاتٌ وقنواتٌ غربية كنا نحسبُها تتبنى قيمًا عريقةً، في معركةِ حرية الرأي والتعبير، أو نقل الحقائق على أرض الواقع، لكنها كشفتْ عن الوجهِ القبيحِ للإعلامِ الموجه الذي يتبنى التضليلَ واختلاقَ القصص الإخباريَّةِ المزوَّرة لتبرير أفعال الاحتلال وتشويه المقاومة، وتبارت هذه المحطاتُ مع المسؤولين الغربيين في ادعاء مظلومية واهية للإسرائيليين.
ورغم القيودِ التي فرضتها بعضُ منصات التواصل الاجتماعي، تمكن شبابُنا وشباتنا من اختراق الحواجز، وكشفوا للرأي العام الغربيِّ حقيقةَ ما يحدثُ من جرائمَ على يد الاحتلال، ورأينا أعلامَ فلسطين ترفرفُ داخل ملاعب كرة القدم الأوروبيَّة ودعواتٍ لوقف القتل الوحشي بحق كل إنسان فلسطيني.
لكي نعلمَ حجمَ الدمار الذي شهدته غزة، فقد نشر موقعُ «إندبندنت عربية» إحصائيةً نقلا عن وكالة الأنباء الفرنسية تشير إلى أنه خلال الفترة من 7 أكتوبر حتى 18 أكتوبر فإن هناك أكثر من 12845 مبنى تم تدميرُه بالكامل في غزة، كما تعرض 9055 مبنى لأضرارٍ جسيمة جعلته غير صالحٍ للسكن، بالإضافة إلى 121 ألف مبنى تضرَّرَ جزئيًّا، جراء القصف الجوي الإسرائيلي المتواصل، فما بالنا بالاجتياحِ البري الذي سيودي بأرواح مئات الألوف من المدنيين الأبرياء الذين ستكون دماؤهم في رقاب كلِّ زعماء المجتمع الدولي الذي ساند ودعم وشجع الفظائعَ المرتكبة من الاحتلال بذريعة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، متغافلين عن أبسط حقوق الإنسان في وطنٍ يأويه.
في هذا الظلامِ الدامسِ واليأسِ القاتل، يستطيعُ كلُّ عقلٍ يتحلى بالرزانةِ الفكريَّةِ أن يتمسكَ بالأمل ويرى الضوءَ الخافت في نهايةِ النفق، ذلك الضوء الذي يحملُ شعلتَه طفلٌ صغير، سيبقى مدافعًا عن أرضِه، حاملا لواءَ أمته، رغم طبولِ الحرب التي يدقها أعداؤه، هذه الشعلة التي ستكونُ نقطةَ تحول ستغيِّرُ المشهدَ العالمي، وتجبرُه على العودةِ إلى رشدِه المفقود.
والحال في غزةَ يذكِّرني بمقولةِ جلال الدين الرومي «إنهم مشغولون بالدماءِ وبالفناء، أما نحن فمشغولون بالبقاء».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك