مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
ولادة الأمـــــل مــــن رحـــم الألــــم
مع كل الاختلافات الموجودة بين العقول عن 7 أكتوبر 2023، وهل ما حدث كان خطأ أم واجبا؟ يجب أن ندرك أن صراعات الأمم من غير الممكن نقاشها في أوانها، بل تُقيَّم بعد مرور الزمن.
من دون شك أن 7 أكتوبر والنتائج التي أدت إليها والحصيلة غير النهائية حتى الآن، كلها مفاجآت، ولكن الحقيقة التي رأيناها هي أن القضية الفلسطينية التي كادت تكون في طي النسيان جاء 7 أكتوبر ليعطي ميلادا جديدا لهيبة وحجم النضال الفلسطيني، ليس عند العرب فحسب، بل لأول مرة عند العالم كله وخصوصا الغربي منه.
للمرة الأولى يقف بعض اليهود البريطانيين والأمريكيين مع قضية فلسطين.
وبلغة مُبسطة، أستطيع أن أقول إن 7 أكتوبر وفّر للفلسطينيين امتلاك ما يشبه جهاز XRAY الذي يساعد الطبيب على أن يرى كل ما في داخل جسم الإنسان، ونحن المراقبون رأينا الجسم الفلسطيني بكل علاته وآلامه ومعاناته.
وما أقوله قد يكون صادمًا للبعض، ولكنني أرى أن ما نحتاج إليه ليس تقوية جيوشنا؛ لأننا لن نستطيع في أي حرب ضد إسرائيل أن ننتصر بالسلاح بسبب الدول الغربية المؤيدة لها في كل شيء وأي شيء، وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أننا رأينا بأعيننا حقائق الوضع الفلسطيني. ما نحتاج إليه هو التزامنا أولا، وإخلاصنا لهذه القضية وتجنيد إمكانياتنا الفكرية والإعلامية وحتى أطفالنا لهذه المواجهة؛ لأن هذا الجيل يمتلك أقوى سلاح بين أيديهم وهو «الاتصالات» عبر تواصلهم مع من هم في سنهم في مختلف دول العالم، وخصوصا أن معظم أبنائنا في عمر الـ15 سنة فما فوق يجيدون مخاطبة الغرب بلغتهم، ولا أبالغ حين أقول أدق منهم في أحيان كثيرة، وكذلك تجنيد المثقفين في خلق صداقات مع نظرائهم لإعطائهم المعلومات اليومية، وليس في المناسبات فقط عن رؤيتنا للصراعات، وهذه المعلومات ميسّرة في الجرائد وكل ما عليهم هو نقل الخبر إلى الطرف الآخر.
ما نحتاج إليه من المتمكنين أيضا هو الإسهام الفاعل في مراكز الإعلام والبحوث الغربية، وبعضها معروض للبيع فعليا.
وعلينا أن نفعل دور مراكز البحوث والفكر العربية لكي تصل بشكل مؤثر في مناقشات مراكز الفكر الغربية لعرض الرؤية العربية للأوضاع في المنطقة والعالم، والتخلي عن دور المتلقي فقط، وأن يلعبوا دورا مؤثرا ومشاركا في صناعة القرار الغربي أسوة بالتجارب اليهودية والإيرانية في الغرب.
فلسطين.. جرح الإنسانية الذي لم ولن يلتئم أبدا، وستبقى ندبته أثرا غائرا في جبينها ما لم تُعاد الحقوق لأصحاب الأرض الأصليين، وما دام هناك قلب ينبض بين ضلوع أي عربي أو مسلم على هذا الكوكب، وستبقى أمانة في عنق كل حرّ من أحرار العالم يأبى أن يسود الظلم.
إن الحديث عن فلسطين هو الحديث عن أكبر جريمة تزوير للتاريخ على مدار الزمن، تلك الجريمة التي ارتكبها الاستعمار في الأراضي العربية، وحاول تكريسها من خلال ترديد الأكاذيب، عبر ادعاء أن فلسطين أرضٌ بلا شعب، وصولا إلى وعد بلفور المشؤوم في 1917، الذي يعكس حقيقة عبارة «أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق».
ومنذ ذلك الوعد ظهر العجز العربي في مواجهة اغتصاب الأرض العربية من خلال ولادة عبارات التنديد والسخط الجوفاء بعيدا عن التحرك الإيجابي الفعّال في مقابل اندفاع اليهود نحو الهجرة إلى الأراضي الفلسطينية في دفعات كبيرة، والاستيلاء على أراضي «فلسطين التاريخية».
وشهد القرن العشرون توالي المواجهات العربية مع الصهيونية من دون العمل العربي الحقيقي على امتلاك مقومات العصر في هذه المواجهات، في ظل تخطيط استراتيجي طويل الأجل من الاحتلال لفرض سياسة الأمر الواقع على الأراضي المحتلة، مع تغير وجوه القوى الاستعمارية، فالولايات المتحدة حلت محل بريطانيا.
ووصلنا إلى القرن الحادي والعشرين، وانكبت كل دولة عربية على أزماتها الداخلية المفتعلة بأيدٍ خارجية عنها، التي صدّرت لنا المشكلات تارة بدعوى الحرب على الإرهاب، وتارة بدعوى إقامة الديمقراطية، وتارة أخرى بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان، لتصرف العالم العربي عن أهم قضاياه، وهي فلسطين.
أقول ذلك وأنا لست من هواة جلد الذات، لكني أضع الحقائق مجردة أمام القرّاء، لأن التشخيص الحقيقي للواقع هو أول الطريق الصحيح للوصول إلى العلاج.
العالم منشغل حاليا في البحث عن إجابة عن سؤال، ماذا بعد الحرب؟
ومن هذا المنطلق أؤكد أن الإجابة عن السؤال تتطلب أن يكون هناك تحرك فلسطيني عربي متكامل نطور من خلاله أدواتنا في هذه المواجهة المكتوبة علينا، وأن يكون هناك نوعٌ من التعمق الموضوعي في رؤية الواقع المُعاش من خلال دراسة متأنية للماضي، مع وضع تصورات منطقية وواقعية للمستقبل.
إن السابع من أكتوبر شكل منعطفا مفصليا في تاريخ القضية الفلسطينية، يجب على كل المراكز البحثية والأكاديمية والعسكرية والسياسية أن تدرسه بعمق، للوصول إلى تحليلات استراتيجية يمكن أن تستفيد منها المكونات الفلسطينية أولا، ثم المنظومات الإقليمية الخليجية والعربية، وصولا إلى المؤسسات الدولية التي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، في ظل فشل المجتمع الدولي في إدارة الصراعات في مختلف أنحاء العالم.
الكيان الصهيوني هو جريمة العالم الغربي التي لا تُغتَفر، قام في أساسه على نقل كتلة بشرية من العالم الغربي إلى فلسطين؛ بحيث تحل الكتلة المُهَجَّرة محل سكان البلد الأصليين، من خلال ارتكاب جرائم الإبادة على أيادي القوى الاستيطانية، ذلك الوحش الذي استُخدم من بداية الصراع إلى اليوم من أجل إشعال الحرب، ونسف أي أمل في الحياة الآمنة للفلسطينيين.
إنني لن أصبَّ اللعنات على الغرب لأبرّئ الساحة العربية من الاعتراف بالأخطاء التي ارتُكبت في حق فلسطين؛ لأن ما يعيب الفكر العربي في العصر الحديث هو غياب عملية التقييم الموضوعي لآلياته في كل الحقب التي مرت عليه، واختزال الأفكار في الأشخاص والزعامات بعيدا عن التفكير الاستراتيجي الطويل الأجل لمشاريعه، سواء السياسية أو حتى التنموية.
وقد سقط الفكر العربي في إشكالية الاصطلاحات التي تفرضها الثقافة الغربية في التعاطي مع معطيات كل مراحل التطور، حتى باتت أجندة كل مرحلة مرتبطة بالأطر والمحددات التي تفرضها الرؤية الغربية، بداية من تصنيفات المجتمعات الرجعية والتقدمية مرورا بالانحيازات الشرقية والغربية، وصولا إلى العالم المتقدم والعالم الثالث.
وما واكب هذه المصطلحات من محاولات لتغيير في الهوية الفكرية للمنطقة وتحويل شعوبها إلى التبعية لكل ما ينتجه الغرب، ليس استهلاكيا فحسب لكن فكريا أيضا، وهو ما ترك أثره جليا في أنماط نخبوية عديدة أسهمت في توجيه دفة صناعة القرار في منطقتنا.
إن صراع الحضارات هو أمرٌ شهده التاريخ الإنساني على مدار آلاف السنين الماضية، ورغم أننا كنا ننشد الوصول إلى مرحلة الحوار بين الحضارات فإن هناك عقبات تقف في كل حقبة تاريخية تعيق هذا الحوار.
لا بد هنا من التدقيق في الطرف الفلسطيني في الصراع، الذي سقط بعد وفاة زعيمه ياسر عرفات في براثن الانقسام ولم يخرج منه إلى اليوم، في ظل استقطاب حاد شرَخ الصف الفلسطيني، وهو ما كان يبحث عنه ويغذيه الاحتلال بجواسيسه تارة، وباختراقاته تارة أخرى.
وكادت حماس تسقط في خطأ تاريخي جديد ايضا، عندما أعلنت إيران على لسان المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني أن عملية طوفان الأقصى كانت ردًّا على مقتل قاسم سليماني، وهو تصريح خطير يعيد القضية إلى مربع الاستقطابات الفاشلة التي سقطت فيها الفصائل الفلسطينية على مدار السنوات الماضية.
وحسنًا فعلت حماس بالمسارعة بنفي تصريحات الحرس الثوري الإيراني التي كانت بمثابة طوق النجاة الذي تبحث عنه إسرائيل للخروج من مستنقع حرب الإبادة التي تمارسها.
ورغم الألم الذي يعتصر القلب جرّاء سقوط ما يقرب من 30 ألف شهيد في هذه الحرب الشعواء، فإن الانتصار الإعلامي للقضية الفلسطينية يُعد المكتسب الأهم لها؛ إذ سقطت الأقنعة المزيفة خلال الأيام التي تربو على المائة يوم من الحرب.
الفلسطينيون فشلوا في تسويق قضيتهم على مدار 75 عاما، رغم مئات المجازر التي ارتكبها الاحتلال في حقهم، ولكن غابت عنهم القدرة عن الدفاع عن قضيتهم العادلة؛ بسبب ضعف الإمكانات، وبسبب غياب أدوات التأثير، أو بسبب سيطرة الطرف الآخر على مقومات التأثير في الشارع الغربي سواءٌ إعلاميا أو فكريا.
وفي القرن الحادي والعشرين، وفي ظل ثورة الاتصالات التي نعيشها جميعا، انقلب السحر على الساحر، وفشل الكيان الصهيوني في ترويج أكاذيبه هذه المرة على العالم، رغم محاولاته المضنية لاختلاق القصص المفبركة لتبرير جرائمه، إذ رأينا على مدار أيام الحرب مئات المظاهرات والمسيّرات التي تجوب شوارع أوروبا وأمريكا للتنديد بما تقوم به إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.
وشهدنا جميعا كيف أُجبِرت قنوات إخبارية أمريكية وأوروبية على تخفيف حدة انحيازها لإسرائيل حتى لا تفقد مصداقيتها في عيون متابعيها.
وهنا أيضا لا بد أن أؤكد أن التفاعل الغربي مع الشعب الفلسطيني لم يكن بسبب قوة الإعلام العربي أو اللوبي العربي لدى الغرب، ولكن الفضل في ذلك يعود إلى وسائط التواصل الاجتماعي التي لعبت دورًا مؤثرًا في فضح الكيان الصهيوني وجرائمه.
ومن هذا المنطلق يجب على الإعلام العربي والفلسطيني أن يُطور أدواته وأن يكون قادرا على التغلغل في الأوساط الغربية، وأن يتحدث بلغة العصر حتى يكون أكثر انتشارا وتأثيرا في الشارع الغربي، وهذا جهدٌ يحتاج إلى عمل مؤسسي عربي يجب أن تضطلع به المنظمات الإقليمية العربية التي مازالت تستخدم نفس أدبيات العصر القديم في التواصل مع المجتمع الدولي.
من بين رحم الألم يولد الأمل، ونحن مقبلون على عام 2024 الجديد نجد أن فلسطين لم تعد قضية أجيال ما قبل الألفية فحسب، ولكن انضم إلى النضال كل الأجيال العربية، ورأينا أطفالنا مدركين حقيقة الصراع، وكنا نخشي أن يكونوا بعيدين عن الهمّ العربي، ولكن ما حدث كشف لنا أن هذه الأمة الفتية تمتلك أكثر العناصر قوة وهم أطفالها وشبابها، فأطفال فلسطين لم يعودوا وحدهم في هذا الصراع، ولعل اصطفاف ملايين الأطفال والشباب العربي في الدفاع عن الحق الفلسطيني عبر وسائل التواصل الاجتماعي لهو سلاح فاعل وقوي يؤكد أن الصراع انتقل إلى مرحلة جديدة علينا أن نستثمرها بكفاءة وألا نكرر أخطاء الماضي.
يجب علينا أن نمتلك نخبة من المثقفين والمفكرين والأدباء والأكاديميين القادرين على تقديم عطاءات ثقافية وبحثية تنشر على نطاق واسع على المستوى العالمي، وعدم الاكتفاء بنشر إنتاجهم في الداخل العربي فقط، وباللغة العربية وحدها.
يجب علينا أن نستثمر وجود آلاف من الطلبة العرب الدارسين في الجامعات الغربية القادرين على أن يكونوا صوتا لقضايانا العربية العادلة بلغات الغرب.
علينا أن نعزز الإسهام العربي في ركب الحضارة الإنسانية، ويجب أن نعلم أن هناك عشرات العلماء العرب الذين يسهمون في صناعة التقدم الغربي؛ لأن الغرب يستقطب عقولنا ويستغلها، ولكنه ينجح في تحييدهم عن قضايا أمتهم.
علينا أن نخلق «لوبي» عربيا من المؤثرين كل في مجاله، ونحن بذلك لا نعيد اختراع «العجلة»؛ لأن هناك تجارب مماثلة سواء من اليهود أنفسهم، أو من الإيرانيين الذين استطاعوا أن يدافعوا عن مصالح بلدانهم أو تعرضها للتهديد، لكن الإشكالية أن العرب فشلوا في أن يكونوا على قلب رجل واحد حتى في الدفاع عن قضيتهم العادلة وهي فلسطين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك