مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
ما الذي يميز «قمة البحـرين»؟
منذ انتهاء أعمال «قمة البحرين» تبارى المحللون السياسيون في التعليق على مخرجات القمة، ومدى توافقها مع تطلعات الشعوب العربية، وتناقلت وكالات الأنباء والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي صور وكلمات القادة المشاركين في القمة العربية، ولكن يبقى السؤال: ما الذي يميز «قمة البحرين» عن بقية القمم العربية السابقة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال من الناحية السياسية لا بد من الإشارة إلى أن البحرين استضافت واحدة من أفضل القمم العربية، فرغم سخونة الأحداث والمتغيرات التي تشهدها المنطقة والاقليم بأكمله فإن المملكة بقيادة حكيمة من حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم وفّرت الأجواء المناسبة لاحتضان وفود كل الدول العربية، وهو ما شجّع على الحضور الكبير للقادة العرب كأحد العوامل التي تؤكد نجاح القمة.
كما بذلت الحكومة وكل الأجهزة الرسمية جهودًا كبيرةً في توفير التسهيلات اللوجستية والأمنية لإنجاح القمة، وتفاعل شعب البحرين مع استضافة القمة مُرحبًا بضيوف المملكة.
أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة قال خلال قمة البحرين: «المنطقة العربية تمتلك إمكانات هائلة، من ناحية الموارد، والثقافة، والبشر، ولكن ثمة شرطٌ أساسي وحيد للنجاح في عالم اليوم، ألا وهو الاتحاد. لقد أظهر التاريخ مرارا وتكرارا أن الانقسامات تفسح المجال لتدخل أطراف خارجية، ما يغذّي الصراعات ويؤجج التوترات الطائفية، ومن ثم يُشعل فتيل الإرهاب ولو بغير قصد، وهذه عقبات تحول دون تحقيق التنمية السلمية وتعيقكم عن ضمان رفاه شعوبكم». وقد جاءت رؤية البحرين متسقة مع هذا الطرح، من خلال تقديمها مبادرات نوعية تؤكد أن هذه هي اللحظة التي يجب على المنطقة العربية أن تقف صفّا واحدا في مواجهة تحدياتها؛ حتى يستمع العالم لصوت العرب من جديد، ولا يديروا ظهورهم لمطالبهم.
وتميزت قمة البحرين بحرص جلالة الملك على النظر نحو «استشراف المستقبل برؤية ثاقبة، وحكمة متوازنة وهادئة، وبموقف عربي موحّد»، واتضح ذلك من خلال ما عبّر عنه إعلان البحرين، الذي حرصت من خلاله المملكة على تطوير آفاق التعاون العربي المشترك في مختلف المجالات، وما اقترحته من مبادرات تستهدف خلق البيئة الآمنة والمستقرة لكافة شعوب الشرق الأوسط والبدء في مرحلة التعافي للمنطقة.
تلك المبادرات والمقترحات التي تعكس الحرص البحريني على نشر الأمل في نفوس أبناء الأمة العربية بأن قادتها ليسوا بمعزل عن تطلعات شعوبها، لذا نجد أن هذه المبادرات اشتملت على إصدار دعوة جماعية لعقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة، لحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، بما ينهي الاحتلال الاسرائيلي لكافة الأراضي العربية المحتلة، ويجسد الدولة الفلسطينية المستقلة، ذات السيادة، والقابلة للحياة، وفقا لقرارات الشرعية الدولية، للعيش بأمن وسلام إلى جانب إسرائيل؛ سبيلا لتحقيق السلام العادل والشامل، بالإضافة إلى توجيه وزراء خارجية الدول العربية بالتحرك الفوري والتواصل مع وزراء خارجية دول العالم؛ لحثهم على الاعتراف السريع بدولة فلسطين، على أن يتم التشاور بين وزراء الخارجية حول كيفية هذا التحرك، وإفادة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية؛ وذلك دعما للمساعي العربية للحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة كدولة مستقلة وذات سيادة كاملة، وتكثيف الجهود العربية مع جميع أعضاء مجلس الأمن لتحقيق هذا الاعتراف، وذلك يؤكد اتساق المملكة مع الهمّ الأكبر الذي يشغل الشارع العربي وهو القضية الفلسطينية، وبتلك المقترحات تنتقل الدول العربية من خانة الأقوال إلى خانة الأفعال، بعيدا عن المزايدات التي ترددها بعض الأصوات دائما، متغافلة عن المتغيرات السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية.
كما حملت مبادرات البحرين أملا جديدا من خلال مطالبتها بتوفير الخدمات التعليمية للمتأثرين من الصراعات والنزاعات بالمنطقة، ممن حُرموا من حقهم في التعليم النظامي بسبب الأوضاع الأمنية والسياسية وتداعيات النزوح واللجوء والهجرة، بالتعاون والتنسيق بين جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلم والتربية «اليونسكو» ومملكة البحرين، وهذا المقترح يؤكد حرص جلالة الملك المعظم على مجابهة الجهل الذي يعد أحد أهم عوامل نشر التطرف والعنف والكراهية، وخاصة في نفوس تلك الفئات الهشة من اللاجئين والنازحين الذين يعتبرون اللقمة السائغة في أيادي الجماعات الإرهابية في كل مكان، وكذلك يؤكد هذا المقترح الإدراك البحريني الكامل لأحد أهم التحديات التي تواجه العديد من الدول العربية في ظل استمرار النزاعات في مناطق عدة منها.
وتتواصل الإسهامات البحرينية في تطوير مخرجات القمة العربية، من خلال طرح مبادرة تُعنى بتحسين الرعاية الصحية للمتأثرين من الصراعات والنزاعات بالمنطقة، وتطوير صناعة الدواء واللقاحات في الدول العربية، وضمان توافر الدواء والعلاج، بالتعاون والتنسيق المشترك بين جامعة الدول العربية ومنظمة الصحة العالمية ومملكة البحرين، وهذا المقترح يضع لبنة مهمة في تعزيز التكامل العربي المشترك في الصناعات الدوائية، تحسبا لأي تهديدات مستقبلية؛ وخاصة بعد تحدي جائحة «كوفيد-19»، الذي هاجم العالم قبل بضع سنوات خلت.
ولأن البحرين ومليكها معني بالمستقبل، طرحت البحرين مبادرة لتطوير التعاون العربي في مجال التكنولوجيا المالية والابتكار والتحول الرقمي؛ من أجل توفير بيئة ملائمة لتطوير منتجات وخدمات مالية مبتكرة باستخدام التكنولوجيا الحديثة، وهذا يصب في اتجاه ضرورة امتلاك العرب مقومات المستقبل الذي يشهد تطورات متسارعة في عالم التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، وآن الأوان لئلا تتخلف الأمة العربية عن ركب المستقبل، وأن يكون لها إسهاماتها في هذه المجالات، حتى لا نظل أسرى لغزو فكري وثقافي يأتينا من باب التكنولوجيا الجديدة.
قمة البحرين تميزت أيضا بأنها كانت قمة فلسطين بامتياز، فمن يقرأ إعلان البحرين يَلحَظ أن ما يقرب من نصف كلمات البيان تستهدف القضية الفلسطينية؛ ذلك الجرح الدامي في جبين العالم والإنسانية، بل خصصت القمة بيانا من القادة العرب عن الأوضاع في غزة، شددوا فيه على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على القطاع فورا، وطالبوا بإجراء تحقيق دولي فوري حول الاعتداءات الإسرائيلية.
كل هذه المبادرات تركت بها البحرين بصمة مؤثرة في تاريخ القمم العربية، وسوف تتواصل هذه الجهود على مدار رئاسة المملكة للقمة العربية خلال هذه الدورة، وأتطلع إلى أن تتمكن المملكة من تفكيك تشابكات الملفات المعقدة في المنطقة وصولا إلى تصفير أزماتها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك