مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
العرب في الصين.. التوافق والشراكة والأمل في المستقبل
عندما تتأمل الصورة التي تجمع جلالة الملك المعظم مع الرئيس شي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية، مع عدد من قادة الدول العربية ووزراء خارجية الدول العربية المنخرطة في منتدى التعاون العربي الصيني، تلحظ حجم التوافق الإيجابي بين الجانبين، والتقدير والاحترام المتبادل بينهما، القائم على احترام القيم الحضارية للطرفين.
وكشف هذا اللقاء التاريخي حجم التوافق الاستراتيجي بين العرب والصينيين تجاه قضايا التنمية والسلام والأمن والاستقرار والاقتصاد، كما كشف مساعي الصين الجادة نحو تعميق العلاقات مع الشرق الأوسط.
التقارب بين الجانب العربي والصيني ظهر جليا في كلمات القادة المشاركين في الجلسة الافتتاحية لمنتدى التعاون العربي الصيني، وهو ما عبّر عنه جلالة الملك المعظم عندما أكد جلالته تقدير جهود تعزيز العلاقات العريقة بين الحضارتين العربية والصينية المتجذرة في التاريخ. بدوره أكد الرئيس الصيني هذا التقارب عندما عبّر في كلمته عن «إحساسه العميق بالألفة» مع الدول العربية، قائلا: «إن الصداقة بين الصين والشعب الصيني والدول والشعوب العربية تنبع من التبادلات الودية على طول طريق الحرير القديم».
هذه الألفة انعكست على النتائج المثمرة لمنتدى التعاون العربي الصيني، إذ زاد حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية 10 أضعاف منذ تأسيس المنتدى، كما قفزت الاستثمارات الصينية في الدول العربية إلى 213.9 مليار دولار بين عامي 2005 و2021 لتكون بكين أكبر مستثمر أجنبي في العالم العربي، كما دفعت الأسباب الجيواقتصادية الصين إلى الاعتماد على دول الخليج في إمداداتها بالطاقة وخاصة النفط.
وتلاقت الرؤى بين الجانبين بوضوح عندما أكد جلالة الملك المعظم إيمان قادة الدول العربية بدعم وتطوير التعاون الإقليمي والدولي من أجل السلام والتنمية، والعمل على إنهاء كافة الصراعات والنزاعات، وصيانة الأمن والاستقرار الإقليمي، وحماية حرية الملاحة البحرية والتجارة الدولية حفاظًا على مصالح دول العالم أجمع.
وهو ما اتسق مع ما طرحه الرئيس الصيني عندما قال: «في العالم المضطرب الذي نعيش فيه، الاحترام المتبادل هو السبيل لتحقيق التعايش المتناغم، والإنصاف والعدالة هما الأسس للأمن الدائم».
وفرضت غزة نفسها بقوة على طاولة المنتدى باعتبارها من القضايا الساخنة التي تشغل الرأي العام العربي والعالمي، إذ كان هناك اتفاق تام بين العرب والصين على ضرورة الوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، وتجسد ذلك بوضوح في كلمة جلالة الملك المعظم رئيس القمة العربية عندما أكد أهمية العمل على وضع حد لهذه المأساة الإنسانية، من خلال الإشارة الواضحة إلى العمل من أجل تنسيق المواقف وحشد الدعم اللازم لهدف السلام الدائم، ودعا جلالته إلى سرعة انعقاد مؤتمر دولي للسلام، لدعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وقيام دولته الوطنية، واستعداد مملكة البحرين لاستضافة هذا المؤتمر المهم.
وشدد جلالته على أن البحرين لن تدخر أي جهد لوقف الحرب المدمرة على قطاع غزة، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى السكان المدنيين، والدفاع عن حقهم في الحياة الكريمة الذي كفلته القوانين الدولية والشرائع السماوية.
المبادرة الملكية السامية التي طرحها جلالة الملك المعظم خلال قمة البحرين ووافق عليها القادة العرب بالإجماع، ثم دعوة جلالته روسيا إلى دعم هذا المؤتمر، نالت اليوم أيضا دعما جديدا من قوة دولية كبرى عندما دعا الرئيس الصيني إلى عقد مؤتمر سلام دولي «واسع النطاق» لحل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، محذرا من أن «العدالة في الشرق الأوسط لا يمكن أن تغيب إلى الأبد».
جلالة الملك المعظم شدد على ضرورة تكثيف الجهود الدبلوماسية للاعتراف الدولي الكامل بفلسطين، ومنحها العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وهو ما أعلنه الرئيس شي جين بينغ عندما جدد دعمه لحصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.
الصين على لسان رئيسها أكدت السعي إلى إنشاء إطار تعاون متعدد الجوانب مع الجانب العربي لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة للطرفين في مجال الطاقة، وبناء علاقات اقتصادية وتجارية أكثر توازنا تعود بالنفع على الطرفين، لافتا إلى أن «الصين على استعداد للعمل مع الجانب العربي في مجال البحث والتطوير في مجال تكنولوجيا الطاقة الحديثة وإنتاج المعدات».
الخطوة الصينية هذه تتفق مع ما قاله جلالة الملك المعظم «إنه لمن حسن الطالع أن ينعقد هذا المنتدى في أعقاب قمة البحرين، التي تميزت بما طرحته من قضايا ذات أولوية قصوى، وبما نتج عنها من قرارات مهمة ومبادرات طموحة لتلبية احتياجات شعوب المنطقة، لتوفير خدمات التعليم والرعاية الصحية للمتأثرين من تداعيات الحروب والنزاعات في المنطقة، إلى جانب طرح مبادرة نوعية تهتم بتعزيز التعاون العربي في مجال التكنولوجيا المالية والتحول الرقمي، بما يحمله هذا القطاع من فرص استثمارية ومجالات عمل واعدة للشباب العربي».
التوافق العربي الصيني اللامحدود في السنوات الأخيرة في مختلف القضايا الاقتصادية والسياسية يسير في اتجاه توسيع «القوة الناعمة» للصين في الشرق الأوسط، والرغبة المشتركة في الحد من سيطرة الأحادية في المنطقة والعالم، إذ تتسع رقعة حلفاء بكين في ظل الدعم الأعمى من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية لإسرائيل، الذي أسفر عن ارتكاب مجازر ومحارق للأبرياء ببشاعة تفوق ما شهدته الحروب العالمية على مدار التاريخ.
تحول بوصلة الثقل الاقتصادي العربي تجاه الشرق بعيدا عن الغرب يتعزز عاما بعد عام، ومع حلول القمة العربية الصينية في بكين عام 2026، سوف تتغير الكثير من قواعد اللعبة في المنطقة، وقد ينذر التحول الاقتصادي بتحولات أخرى في المستقبل في ملفات قد يتصور الغرب أنه يمسك بمقبضها في المنطقة، على رأسها الملفات الأمنية والدفاعية، ولعل نجاح المبادرة الصينية في إقناع السعودية وإيران باستعادة العلاقات الدبلوماسية، وما تبعه من تغير في النبرة الإيرانية تجاه دول الجوار، وتجاوبها مع دعوة جلالة الملك المعظم إلى تحسين العلاقات مع طهران، يعد مؤشرا جديدا لنزع فتيل التوترات في منطقة الخليج والشرق الأوسط، من خلال احترام قواعد حسن الجوار، وهو ما قد يكون عاملا مؤثرا في تغير معادلة الأمن والاستقرار في المنطقة.
في الختام، لا بد أن نؤكد أننا نشهد تحركا عربيا فاعلا تجاه تصحيح مسارات قواعد العمل الإقليمي والدولي بعد الإحباط السائد من فشل منظومة العمل الدولية الحالية في إرساء مبادئ العدالة التي تحمي أبسط الحقوق الإنسانية وهو الحق في الحياة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك